إدمان "الكراك" في فرنسا... مهاجرون يستنشقون الموت

15 ديسمبر 2019
تتركز تجارة واستهلاك مخدر الكراك في باريس (Getty)
+ الخط -
لم يكن العشريني السوداني إبراهيم سالم، يُدخن غير السجائر، قبل أن يستقر في بورت لاشابيل بالمقاطعة الباريسية الثامنة عشرة، غير أن ظروف إقامته البائسة على أطراف العاصمة الفرنسية وضواحيها إلى جانب رفاقه من المهاجرين غير القانونيين دفعته إلى تجريب مخدر "الكْرَاكْ"، والذي سرعان ما أدمنه مثل رفاقه، الذين يفترشون الأرض، وينامون على الأرصفة، ويتسولون لشرائه، "بل إن بعضهم يتحرشون بالمارة وحتى بغيرهم من المهاجرين، وخاصة القاصرين منهم"، كما يقول ناصر الإدريسي، رئيس فرع منطقة غوت دور بجمعية العمال المغاربيين في فرنسا، والتي تُعنى بتقديم المساعدة إلى المهاجرين الشباب، قائلا: "تعرض مهاجرون قاصرون إلى حالات اعتداء جنسي بعضها مرتبطة بتناول المخدرات، من بينهم 6 حالات موثقة في باريس وكاليه، تحقق فيها الشرطة".

ويعد الكراك أحد المشتقات الأكثر رداءة لمخدر الكوكايين، وهو مزيج ما بينه وبين بيكربونات الصوديوم والأمونيا والماء ويجفف ليصبح على شكل أحجار صغيرة، ويعتبر إلى جانب الكوكايين من أكثر أصناف المخدرات استهلاكا في فرنسا، ويعدان خطرا كبيرا بسبب القابلية العالية للإدمان عليهما خاصة الكراك، إذ زاد معدل استهلاكهما بنسبة 33% عام 2017 مقابل نسبة تتراوح بين 20% و25% بين عامي 2013 و2016 ما جعله من أهم أسباب حالات التسمم والوفيات بين مدمني المخدرات، إذ ارتفعت النسبة 6 مرات في عام 2016 بإجمالي 416 حالة تسمم ووفاة، مقارنة بـ 68 حالة في عام 2010، وفق دراسة صادرة عن الوكالة الوطنية لسلامة الأدوية والمنتجات الصحية الفرنسية في يناير/كانون الثاني من عام 2018.



هضبة الكْراك

تتركز تجارة واستهلاك مخدر الكراك في باريس ومحيطها مقارنة مع بقية مناطق فرنسا وتنتشر لدى الأشخاص ممن يعانون من عوائق الدمج ووضعيات هشة اجتماعيا وفق ما جاء في دراسة صادرة في مارس/آذار 2018 عن مرصد المخدرات والإدمان الفرنسي، ويتزايد عدد خيام المهاجرين في بورت دو لاشابيل في المنطقة التي يطلق عليها "هضبة الكراك" وبورت أوبيرفيليي وبورت لافيليت وحتى في ضاحية سان دونيه، بالمنطقة التي تضم قسما من الأحياء الشعبية في العاصمة، وتقطُنُها كثير من العائلات العربية والآسيوية والأفريقية، واستخدمها المهاجرون الذين تدفقوا على باريس في السنوات الأخيرة، مكانا لاستقرارهم المؤقت ونصب خيامهم، كما يقول لـ"العربي الجديد" مستشار الشؤون الاجتماعية في بلدية باريس، جمال غوراري، محذرا من "هذا القُرب بين هؤلاء الواصلين الجدد وبين مئات من المدمنين، من بينهم فرنسيون وأوروبيون، من شتى نواحي العاصمة، والذين يأتون لشراء هذا المخدر فيجدون أنفسهم في نفس مكان تواجد المهاجرين".

ودفع الاحتكاك بين الطرفين بعض المهاجرين لتجريب الكراك ومنهم من سقط في أتون الإدمان، وفق تقدير جون فرانسوا لوروا مدير مكتب باريس لجمعية "يوتيوبيا 56" المختصة في إغاثة المهاجرين، والذي أكد أن "المهاجرين يعيشون في جماعات، ولا يرغبون في الاتصال بأي طرف كان، خاصة مع هؤلاء الذين تبدو عليهم علامات التعب المزمن والنظرات الشاردة، ولا يحترمون النظام من المدمنين الذين يلجؤون أحيانا إلى العنف، ومنهم من يحاول التقرب من المهاجرين، بل ويلازمهم، حتى أثناء توزيع الطعام، ونحن لا نستطيع التمييز بينهم".

وتقدر أعداد المهاجرين المقيمين في خيام في تلك المنطقة بين 1620 شخصا و3150 شخصا وفق إحصاء أصدرته في 4 أكتوبر/تشرين الأول 2019، جمعية "فرنسا أرض اللجوء"، والتي أوضحت أن التباين بين العددين المذكورين في الإحصاء يعود لطبيعة تنقل المهاجرين دائمي الحركة من مكان لآخر بين مناطق وأحياء شعبية وفقيرة، حيث تنتشر السرقات والدعارة والمخدرات.


انتهاكات تعصف ببراءة الطفولة

يرصد ناصر الإدريسي العشرات من المهاجرين القاصرين المغاربة من مدمني مختلف أنواع المخدرات، يتجولون في حيّ "غوت دور"، في الدائرة 18 بباريس، وفق ما قاله موضحا أنهم: "رفضوا كلّ محاولات الإدماج والإيواء، والتعليم، وفضلوا البقاء، في جماعات، لتناول المخدرات والتسول، ثم التحرش بالمارة والسرقات والنوم في الحدائق والشوارع، كما أن بعضهم يقول إنهم يتنقلون أحيانا إلى الضواحي للسرقة"، مشيرا إلى أن "طلب السلطات الفرنسية من الشرطة المغربية دعمها لاستعادتهم، لولا أن جمعيات فرنسية تصدت للمحاولة، بسبب حق القاصرين في البقاء، حتى بلوغهم سن الرشد على الأقل".

ويؤكد أن جمعيته إضافة إلى جمعيات أخرى، منها "تجمع تيمي" و”يوتوبيا 56"، تقر بوجود حالات إعتداء جنسي، ما حدا ببعض الجمعيات المهتمة بالطفولة، إلى إرسال تقارير للشرطة، عن حالات في باريس وكاليه، لا تزال تحقيقات الشرطة مفتوحة في شأنها، وسبق لـ "يوتوبيا 56"، قبل نحو عامين، أن حذرت من تعرُّض مهاجرين قاصرين، في المدينتين، إلى اعتداءات جنسية، بما فيها من اغتصاب أو استعباد أو دعارة، أومحاولات إغراء جنسي أصابتهم بصدمة عميقة، وجعلت أغلبهم يَركنون للصمت، ولا يجرؤون حتى على طلب المساعدة، ويفضلون عدم التبليغ عن تلك الجرائم إلا نادرا، ولا تزال تنبه إلى اختفاء العديد من هؤلاء دون معرفة المكان الذي لجأوا إليه.

ورغم إلحاح أطباء نفسيين من أعضاء جمعيات ناشطة في إغاثة المهاجرين على من تعرضوا للاعتداء من الكبار وحتى القصر للبوح بما يتعرضون له، إلا أن "الشكاوى لم تتعدَّ، للأسف، أصابع اليدين"، كما يؤكد مسؤول العلاقات مع الصحافة ومع الفاعلين الاجتماعيين من جمعية يوتوبيا 56، بوريس لوغران، مضيفا "بعضهم حتى يتحدث يشترطون ألا يصل الأمر إلى الشرطة، مخافة أية عراقيل قد تؤثر على تسوية أوضاعهم وفي مجمل ما تُحقّقُ فيه السلطات، لا يتجاوز الأمر عشر حالات، بسبب ما تؤكده مختلف الجمعيات من صعوبة العثور على شخص يتحدث عمّا جرى له، مخافة من الانتقام ومن تشويه سمعته".

ويوضح أن "عدد الاعتداءات الجنسية على المهاجرين القصر أو من يوجد في حالة هشاشة، لا تظهر، أو لا يُصرّح بها، لأسباب عديدة منها الخوف من الاعتقال والطرد، أو الفضيحة، خاصة وأن الشرقيين لهم حساسية أكبر تجاه الموضوع، ولكن هذا لم يمنع مهاجرا شابا، من أصول أفغانية يوم 15 يناير 2019، من التقدم بشكوى لدى الشرطة لتعرضه للاغتصاب، بعد تناوله المخدّرات، في خيمة بباريس، من طرف أحد مواطنيه، ولكن الشرطة لم تستطع إيقاف المذنب نظرا لاختفائه".


الخطر أكبر على القصر

سجلت فرنسا 123.625 طلب لجوء في عام 2018 بزيادة تقدر بنحو 22 في المئة عن العام الذي سبقه، خاصة من أفغانستان وغينيا وألبانيا وجورجيا وساحل العاج والسودان، واستجاب المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية إلى 33.330 حالة منها، وفق إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاجتماعية الفرنسي.

ورغم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعد في حملته الانتخابية "ألا يظل متسكع واحدٌ في الشارع، عام 2018"، لا يزال آلاف المهاجرين دون مأوى في شوارع باريس، كما تؤكد القيادية والنائبة عن حزب فرنسا غير الخاضعة ليلى الشيبي قائلة إنه "كان حري به أن يبدأ بالقصر والمهاجرين ممن لا مأوى لهم سوى الشارع والمخدرات، وحيث كل الأخطار محدقة بهم، وتابعت: "قلق الجمعيات حقيقي ومشروع وتصرف الحكومة غير كافٍ، ولا يُشرّف بلدنا".

في ذات المنحى سار جمال غوراري، قائلا "السلطات تقاعست عن أداء دورها، في احتواء هؤلاء القصر في أماكن تربوية وتكوينية، بدل تعرضهم لكل مخاطر الشارع والليل"، معتبرا في المقابل أن "المصالح الحكومية جادة في التعاون مع بلدية باريس ومع الجمعيات في مسعاها للعثور على حلول ملموسة ومستعجلة".

ويتفق ميشيل دوبوا ضابط الشرطة بالمقر الرئيسي في حي غوت دور، حيث ينتشر هؤلاء القصر بشكل جزئي مع ما سبق، قائلا إن "حل المشكلة لا يمكن عبر المقاربة الأمنية فقط"، لافتا إلى ضرورة المزج بين الحل التربويٌّ والتعليمي، مشيرا إلى أن مكان هؤلاء المهاجرين والقصر ليس الشارع، خاصة وأن الشرطة تتحمل عبئا إضافيا، بسبب العنف الصادر عنهم، سواء فيما بينهم أو تجاه سكان الحي، ومن يأتي للسياحة والتبضع.


وتوقيا من الوقوع في شباك متصيدي القصر والبالغين على حد السواء، تحرص الجمعيات على حماية هؤلاء المهاجرين، وتحذيرهم من قبول أي مساعدة من أطراف خارجية مقابل طلب شيء ما، ويوضح ناصر الإدريسي، أن "ذلك لا يعني رفض عروض الإيواء، كليا، بل يجب تأطيرها من قبل تجمع أو جمعية معروفة ومعترف بها". وتضيف المستشارة في الشؤون القانونية في جمعية "ميدي دو مي" الناشطة في حماية المهاجرين، لبنى الراجي " ننصح المهاجرين بألا ينفرد بهم أحدٌ، وأن يتواجدوا دائما في مجموعات".

وتحت ضغط الجمعيات المهتمة بالدفاع عن الطفولة وبشؤون القاصرين التي تتواصل مع الشرطة، تقوم السلطات الفرنسية المخولة بمتابعة القصر، حتى لا يتعرضوا لاعتداءات في مخيمات إقامتهم، وتوجيههم إلى مؤسسات تعليمية أو مراكز أو مدارس التكوين، وذلك حتى يتمّ تفعيل كل القرارات التي تدافع عنهم خاصة تلك التي صادقت عليها فرنسا وتوفير حل دائم لمشكلتهم.