إخوة المغول.. عودة إلى العراق

25 فبراير 2015
المغول يحاصرون بغداد. من مخطوط فارسي (دي أغوستيني/Getty)
+ الخط -
منذ عملية إحراق وإغراق مكتبات بغداد، لم يسجل قيام قوة غازية بعمل مماثل في بلاد الرافدين. لا المماليك ولا العثمانيون ولا الإنجليز أو غيرهم كرروا مثل هذه الفعلة. صحيح أن الكثير مما يملكه العراق من آثار ومخطوطات سُرق وتم تهريبه، إلا أن كثافة التاريخ والدور الحضاري المتواصل منذ فجر التاريخ عوّضا ذلك. وخلال تلك القرون كانت البلاد تكافح من أجل أن تبرأ من تلك الكارثة التي ألمت بها، وجعلت من الثقافة على أرضها مجرد مساحات جرداء. المدارس عادت لتفتح أبوابها أمام الطلاب، ومعها الكتاتيب والحوزات وكذلك الجامعات والمعاهد، حيث عشرات الأساتذة والباحثين يكدحون ويقدحون أفكارهم في إنتاج كل جديد في مختلف العلوم والمعارف.

العلماء يفكرون، الأدباء والشعراء والصحافيون يكتبون وينشرون، والمطابع تعمل على إصدار كل جديد، وما لا تصدره بغداد يصل من بيروت والقاهرة، والشوارع والمقاهي عامرة بالنقاش رغم منوعات الكبت والجواسيس والمصادرة.

حيوية لم تقتصر على العاصمة بل تشمل المدن كافة، قريبة وبعيدة. وكل منها بما تملكه من مؤسسات معرفية، تساهم بما عليها من واجب نحو وطنها والانسان في دنيا العرب والعالم. واستطاع مثقفو العاصمة والمحافظات تقديم ما كان يفاخر به العراق في مختلف الفنون. أما من لم يملك حق القول جرّاء طغيان القمع في الداخل، فتوجه الى المنافي وشغل المنابر وأشعل التصفيق.

خلال الفترة القصيرة التي حكمت فيها "داعش" أجزاء من العراق، أقدمت على ما أعاد تذكير مثقفيه بما ورد عن جنكيز خان وجيوشه الغازية. آخر "المآثر" كان إحراق مكتبة الموصل، بما تحويه من نفائس المخطوطات وذخائر الوثائق ومنوعات المؤلفات.

الكثيرون يتحدثون عن سرقات أيضاً طالت جزءاً هاما من التراث العراقي، لكن الأمور أخطر. يمكن وضع قائمة متكاملة بما فعلته "داعش"، لكنها جميعاً تندرج نحو اجتثاث جذور تلك الأرض، وما راكمه ناسها من ثقافة ومظاهر تنوع. لا يسلم معلم من التدمير: كنائس ومساجد ومعابد، قبور أنبياء أثرية ومزارات ومراقد لمؤرخين وعلماء وأئمة، وتحطيم تماثيل رموز دينية وتماثيل لفنانين وعلماء وتدمير مكتبات هذه المراكز مع موجوداتها من وثائق لا تقدر بثمن، أو حتى مكتبات خاصة لدى مداهمة البيوت والمنازل، لأنها تضم مواد أدبية وعلمية وشعرية ودينية حتى لا تتوافق مع ما تدعو اليه.

يمكن أن يتوقع المرء في مرحلة قريبة جداً، أن تنشئ "داعش" محاكم تفتيش خاصة بكل من توسوس له أفكاره بما لا يتلاءم مع ما تدعو اليه، وتضاف أسماء لأناس حقيقين إلى المحرقة، وقائمة الضحايا الطويلة للحملة التكفيرية الضارية.

(أستاذ في كلية التربية - الجامعة اللبنانية)
المساهمون