الزمن: بدايات الثمانينات. المكان: القاهرة. الجو: مقبض وحالك. مثقفو وكتّاب المحروسة، أغلبهم هاجر أو صمَت. وإعلام البلد، في أوج حماسه ل "كامب ديفيد"، وفي أوج سفالته وقطيعته مع كل مَن يعارضها، من كتّاب ومثقفين.
لم يكن أمام وافد صغير السنّ مثلي، سوى الشعور بالاغتراب. أُداويه يوميّاً بالهروب من وسط ثقافي موبوء إلى حيّ العتبة، ففي مقاهيه ومطاعمه، ما يقيم الأود، بما يبقى من نقود، يذهب جُلّها إلى "سور الأزبكية" في بقايا عصره الذهبي. عام مضى على إقامتي، حتى صارت الكتب القديمة النادرة عبئاً حقيقياً لحظة تغيير السكن.
شتاء 1981، إن لم تخن الذاكرة، تعرّفت على إبراهيم أصلان شخصياً، بعد قراءة ملف عنه في مجلة "جاليري 68" وكذا كتابه الأول "بحيرة المساء"، وبعد أن بكيت بالفعل، وأنا أعيد مراراً قراءة قصة منه بعنوان "الرغبة في البكاء".
كان الرجل الكريم حينها قد اختنق بالأوضاع، إلا أنه لم يفكّر بالخروج، لارتباط عضويّ بتربته وناسه. استمرّت علاقتي به عامين ونصف العام، مع تقطّعات، حتى سُجنت ورُحّلت مصفوداً، وسُلّمت لعسكر المحتل. تاركاً خلفي "مكتبة العمر" وقد بيعت لبائع ترمس، ووصلني ثمنها البخس فأعدته إلى صاحبه غير المؤتمن.
وكم كنت أودّ لو منحني الأمنُ فسحة، لأهديها لإبراهيم وهو بمعرفته يتصرّف. زارني مرات في البيت، الكائن في شقة بالطابق الثاني من عمارة سكنية بمنطقة العمرانية الغربية تطلّ على جامع صغير، حيث كان يسكن على مقربة منّا زميله محمد مستجاب.
أبداً لم يتطرّق لحاله الشخصيّ، وإنما الحديث كلّه مكرّس للثقافة الرفيعة واستيلاد السخرية الفذّة من أهوال البلد ومفارقاتها الأقرب إلى العبث، في التحام لا ينفصم، وفي دقة تعبير لا تضاهيها إلا دقّته في الكتابة.
الآن، تغيم الذاكرة، فقد بَعُد العهد، لكن ما تبقّى ولن يزول هو أمران: فور وصولها من بيروت، نشرتُ قراءة متواضعة عن روايته الخالدة "مالك الحزين" في جريدة "القدس" المقدسية، وقصصت المقال وأرسلته له مع الراحل مروان برزق.
وحين دخلت الإنترنت بعدها بعقود، فاجأني الرجل بإشارة إلى المقال على موقعه الرسمي. أيّ تواضع يا إبراهيم!
أما الثانية، فقد لاحظت أنني في المرّات المتباعدة التي غادرت فيها غزة، كنت أحرص على أخذ أعماله القليلة معي. حدث ذلك في زيارة خاطفة لفرنسا، وفي زيارة لمدة ثلاثة أشهر للقدس، والآن في برشلونة. فأعماله، بقدرتها المتجدّدة على الإيحاء، كانت وستبقى مصدر أُنس لا ينفد.
وما ينطبق عليها، ينطبق كذلك على بعضٍ من مقالاته المنشورة. بل أرى في هذا البعض ليس مشهداً قصصياً فحسب وإنما قصصاً قصيرة تامّة البناء، كمقال له بعنوان "سهر"، مثلاً لا حصراً.
إبراهيم كاتب تجربة لا ذهن، كيفٍ لا كمّ. استولد الفنتازيا من قلب الواقع لا الخيال. هنا تكمن فرادته وهنا تكمن خطورته. أوقن أن انتماءه لطبقته الشعبية في "إمبابة"، لا إلى الطبقة المتوسطة كعادة المثقفين، هو انتماء فريد بحق. فهو، بين الأدباء المصريين جميعاً، أفضلهم في استخدم العاميّة الشعبية.
لطالما راودني الشعور بأنه يتذوّق كل مفردة على حِدة، ويُقلّبها على لسانه، قبل كتابتها على الورق (لاحظوا الهارموني البديع في جمل الحوار عنده). لماذا؟
لأنه مسكون بهاجسيْن لا ينفصلان: هاجس مؤرّق، هو كيفية التعبير عن عالمه الشعبي بأقلّ الكلمات، وبأرقى الوسائل الفنية. والهاجس الثاني هو إدخال الحواسّ (خصوصاً البصر) إلى مشهده السردي، بما يوفّر المتعة الخالصة له ككاتب أولاً، ومن بعده متعة القارئ بالطبع.
إبراهيم في الفن، كان ذواقة مفردات وأُسطة في الاصطفاء والتركيب. أما في الكتابة، فلم أر مثله، صبوراً على عمله، كأنما يملك الأبد لا الزمن.
ولعلّ محلّيته العميقة، التي أخذت حقها، ولو متأخّراً في النقد العربي، لم تأخذ أياً من حقوقها، في أوروبا. هل السبب يعود لمحلّيته ذاتها، أم لقصور الترجمات؟ أظنّ القصور. لقد رحل مالكنا الحزين، كما يفعل الجميع، لكنه بقي كما لم تفعل سوى قلّة منذورة للغناء وللبقاء أيضاً.