صيف 1982. بعد 88 يوماً من المعارك الدامية إثر اجتياح الجيش الإسرائيلي لبيروت، بدأت مشاورات حول خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. أمام الضغط الدولي والعربي، لم تجد القيادة مفراً من القبول بالأمر الواقع، غير أن ياسر عرفات أصرّ أن يغادر الفلسطينيون بأسلحتهم بما ينطوي عليه الأمر من رمزية.
التقينا بأحد كوادر منظمة التحرير، جمعة ناجي (أبو ناجي) والذي ما زال يقيم في تونس، يقول "أصر أبو عمار أن يقول بأننا لم نهزم، وأن الثورة والكفاح المسلح مستمران ضد العدو الإسرائيلي". يكشف أبو ناجي أن "فيليب حبيب هو من اقترح على القيادة اسم تونس، فضمن الخارطة العربية والإقليمية كانت هناك صعوبة في إيجاد محطة جديدة نواصل من خلالها الكفاح".
كثيراً ما توضع خطوة الانتقال من بيروت إلى تونس محل انتقاد، لكن أبو ناجي يؤكد أنه "إذا كان ثمة تحفظ فقد كان على مغادرة بيروت، وليس على الذهاب إلى تونس". لقد أدرك الجميع أن ثمة متغيرات، وهناك ظرف لبناني وإقليمي، يُحتم اتباع سياسة أخرى. هكذا استضافت تونس ما يقدّر بـ 8 آلاف فلسطيني، بينهم أهم قيادات المنظمة: أبو عمار، أبو اللطف، أبو إياد، أبو مازن وأبو جهاد الذي سيدير الانتفاضة من تونس.
كان المشهد التونسي، من الداخل، هو الآخر مهيأ لاستقبال المنظمة. يقول أستاذ التاريخ المعاصر في الجامعة التونسية، عبد اللطيف الحناشي لـ "فلسطين - العربي الجديد": "لم تكن هناك جهات رافضة للوجود الفلسطيني في تونس، أو على الأقل لم يعبّر أي طرف عن ذلك لمعرفة كل القوى السياسية، سواء في الحكم أو في المعارضة، موقف الشعب التونسي المؤمن بقوة بعدالة القضية الفلسطينية".
غير أن الوجود الفلسطيني في تونس ظل محكوماً بسقف من الاتفاقيات الدولية، فبحسب الحناشي: "كان مجيء منظمة التحرير إلى تونس ضمن رغبة دولية. ولم يكن من الممكن أن تقبل تونس القيادة الفلسطينية لولا تفاهمات دولية، حيث حصلت المنظمة على هامش للتحرّك، مع حصول تونس على تطمينات دولية بألا تقوم إسرائيل بتجاوزات على أراضيها".
إن عملية قصف ضاحية حمام الشط، يوم 1 تشرين الأول/ أكتوبر 1985 تدل على وجود هذه الاتفاقيات، وإن لم تبرز للرأي العام، إذ يذكر المؤرخ التونسي أن "إسرائيل قد برّرت عدوانها بإخلال تونس لاتفاق ضمني بعدم السماح للفلسطينيين بجعل أرضها منطلقاً لعمليات مسلحة، فتذرعت بعملية تمت ضدها".
يلاحظ الحناشي، هنا، أن "هذه العملية لم تؤثر على العلاقة الجيدة بين النظام التونسي وقيادات المنظمة". خاصة حين نعرف أن عملية مشابهة (قصف مطار بيروت 1975 ردّاً على عملية مسلحة للفلسطينيين انطلاقاً من لبنان) كانت سبباً في تفجير حرب لبنان. عبّرت السلطات التونسية وقتها عن غضبها بقوة، واتهمت الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية بالتواطؤ باعتبار سماح دول لمرور المقاتلات الإسرائيلية من مجالها الجوي، وعلم الإدارة الأميركية بالعملية لانتشار قواتها في المتوسط".
إن سؤال العلاقة بين الدولة التونسية ومنظمة التحرير، وهي في ضيافتها، يظل يطرح نفسه لدى كل حدث مشابه، فسياسة تونس وسياسة المنظمة لا يمكن لهما بحال أن يتقاربا كثيراً لاختلاف التوجّهات والرؤى والأهداف. يرى الحناشي أن "العلاقة بين النظام التونسي والمنظمة كانت واضحة الحدود، إذ طلب من الفلسطينيين عدم التدخل المباشر في الشأن التونسي، وبقاؤهم معزولين من السلاح علاوة على استقرار معسكراتهم بعيداً عن مراكز المدن مثل معسكر وادي الزرقاء".
ثمة حادث آخر كان من الممكن أن يُعكّر صفو العلاقة بين الدولة والمنظمة، وهو اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) في تونس من قبل "كومندوس" إسرائيلي. يقول الحناشي "جاءت هذه العملية في ظرفية أخرى، حيث آلت الرئاسة بعد 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 إلى زين العابدين بن علي، ويمكن اعتبار أن أطرافاً تونسية شاركت في هذه الجريمة، خاصة أن منطقة إقامة أبو جهاد كانت قريبة من القصر الرئاسي وضمن الدائرة الأمنية والمخابراتية لأجهزة الأمن التونسية".
لكنه يضيف "في كل مرة، سواء بعد قصف حمام الشط أو اغتيال أبو جهاد أو اغتيال أبو إياد قدّرت قيادة منظمة التحرير أن مصالحها تقتضي بألا ترد". يذكر الحناشي أن "اتفاقيات مؤتمر مدريد ثم أوسلو قد طبخت في تونس، حيث إن وفوداً رسمية وغير رسمية (بعضها إسرائيلي) كانت تتردّد إلى تونس في الفترة بين الانتفاضة وتوقيع الاتفاقيات".
(كاتب تونسي من أسرة العربي الجديد)