أيام عصيبة للدولة اللبنانية بين أميركا و"حزب الله" و"اليونيفيل"

18 اغسطس 2017
تُعتبر الولايات المتحدة المموّن الأول للجيش اللبناني (حسين بيضون)
+ الخط -

مرّ أكثر من 34 عاماً على تفجير مقرّ السفارة الأميركية وقاعدة قوات مشاة البحرية في العاصمة اللبنانية عام 1983، لكن الصراع الدائر بين الولايات المتحدة و"حزب الله" لم ينته بعد، وتشهد هذه الأيام فصولاً تصعيدية فيه تكاد تهدد ما تبقى من مؤسسات الدولة اللبنانية. وكما تطور الحزب من مجموعة مقاتلة مغمورة توالي الولي الفقيه في إيران إلى جيش يشارك في حروب المنطقة، تطورت أشكال هذا الصراع وساحاته. من العراق الذي اعتُقل أحد مدربي "حزب الله" العسكريين على أراضيه عام 2007 واتُهم بالتحضير لعمليات ضد قوات الاحتلال الأميركي، وصولاً إلى اليمن مع اعتماد مقاتلي جماعة الحوثي على التكتيكات العسكرية التي نقلها "حزب الله" إليهم لمواجهة القوات السعودية المُجهزة أميركياً. لم تعد المعركة عسكرية مباشرة كما حدث في تفجيرات عام 1983، التي اتُهم المسؤول العسكري السابق في الحزب عماد مغنية (اغتيل في العاصمة السورية دمشق عام 2008) بتنفيذها، بل أصبحت الهجمات سياسية واقتصادية يُخطّط لها في الكونغرس لا في وزارة الدفاع (البنتاغون)، وتُناقش تداعياتها في مقر الحكومة في بيروت.

ولا يغيب الصراع عن مجلس الأمن الدولي الذي يُشكّل جبهة حرب تضاف إلى الجبهات الفعلية في الشرق الأوسط. وهو ما عكسته تصريحات سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، التي أكدت رغبت بلادها بـ"توسيع مهام قوات حفظ السلام الدولية العاملة في جنوب لبنان (اليونيفيل) لتشمل تحقيقاً حول المزاعم بانتهاكات يرتكبها عناصر حزب الله في المنطقة"، وذلك قبل أيام من موعد التمديد التلقائي لانتشار هذه القوات في لبنان. وأضافت هايلي أن "الأسلحة التي يسيطر عليها بشكل شبه كامل إرهابيو حزب الله تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة، لذلك ينبغي على اليونيفيل زيادة طاقاتها وجهودها للتحقيق في هذه الخروق والإبلاغ عنها".

وقد لاقى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الموقف الأميركي من خلال تأكيده "البحث في سبل تمكن قوات اليونيفيل من تعزيز جهودها لمكافحة الوجود غير القانوني للأفراد المسلحين، أو الأسلحة داخل منطقة عملياتها". ولا يمكن إلا الربط بين هذه الدعوة الأميركية، بصيغة الأمر أكثر من الطلب، وبين بدء مجلس الأمن الدولي الإعداد لتبني مشروع قرار لتجديد ولاية "اليونيفيل" قبل نهاية العام الحالي، مع بقاء ورقة "الفيتو" والتمويل الأميركي لمهمة البعثة العسكرية الدولية، حاضراً في لغة التهديد الأميركية، في حال لم يتم التجاوب مع رغبة واشنطن بتوسيع دور "اليونيفيل" شرقاً وتعزيز "رقابتها" على حزب الله.

ولم تكن الموافقة على القرار 1701 عام 2006 لإنهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان محط إجماع محلي أصلاً، واليوم يُتهم رئيس الحكومة سعد الحريري بـ"الاستقواء بالخارج" ضد "حزب الله" في محاولة لتحقيق مكسب سياسي أمام الفريق الذي أخضعه لإرادته السياسية مراراً في الملفات الإقليمية والداخلية، بالعناد السياسي مرة وبالضغط العسكري والأمني والميداني مراراً، خصوصاً أن النقاش الداخلي حول توسيع صلاحيات القوات الدولية التي تعمل في لبنان تحت راية الأمم المتحدة يتجاوز منطقة عملها الحالية شمالي فلسطين المحتلة، مع مطالبة "كتلة المستقبل" النيابية بانتشار هذه القوات على حدود لبنان الشرقية مع سورية.



كلام قابله "حزب الله" باستكمال السيطرة على الجرود الفاصلة بين البلدين وتنسيق انتقال لاجئين سوريين بعيداً عن إشراف أي مؤسسات أممية أو دولية كالصليب الأحمر الدولي والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين. وبعد أن رد الحزب عبر الميدان على موقف "المستقبل"، كعادته، وإن اختلفت الميادين، يتحضر مقاتلو الحزب لتسليم المواقع الحدودية الخاصة به إلى الجيش الذي سيصبح رسمياً هو المسؤول عن سلامة وأمن هذه المنطقة. عندها سيصبح من غير المقبول سياسياً المطالبة باستبدال قوات الجيش اللبناني بقوات دولية.

وكانت مصادر سياسية قد تحدثت عن توسيع "كبير" لمهام قوات الطوارئ الدولية التي تنص مهامها الحالية على التنسيق مع الجيش اللبناني لمنع أي نشاط عسكري غير رسمي في منطقة انتشارها شمالي فلسطين المحتلة، ومنع تهريب الأسلحة إلى لبنان عبر البحر فقط. لم يتأخر الحزب في فرض الإجراءات كافة التي تسمح له بتأمين مسار شحنات السلاح من سورية إلى لبنان، كما لم تمنعه التفاهمات الداخلية من التعبير العنفي عن معارضته تسهيل مؤسسات مصرفية محلية تطبيق حزم العقوبات المالية التي تطاول أفراد الحزب ومؤسساته. ولا تزال نتيجة التحقيقات في تفجير استهدف المقر الرئيسي لمصرف لبنان والمهجر خلال الصراع بين "حزب الله" و"جمعية المصارف" عام 2016 غامضة.

انفجرت العبوة التي بدا من توقيت تفجيرها أن واضعها لم يرد حصد ضحايا وإنما الاكتفاء بتوجيه رسالة. ويخشى الرأي العام اللبناني اليوم من إمكانية تلقي رسائل جديدة بعد الحديث عن إقرار الكونغرس لعقوبات مالية إضافية لا تقتصر على أعضاء ومؤسسات الحزب بل تطاول حلفاء سياسيين يتشاركون مالياً مع أعضاء أو مؤسسات الحزب في نشاطات تجارية. كما تخشى المصارف اللبنانية من أثر هذه العقوبات الذي يطاول تباعاً الكثير من اللبنانيين نتيجة ترابط القطاع المالي في لبنان وصغر حجم السوق، ما قد يورّط أطرافاً غير مُستهدفة ويوقعها تحت دائرة العقوبات. تستند العقوبات المالية الأميركية على إعاقة عمليات الحزب من خلال تضييق الحصار المالي عليه، وهو ما ينفيه الأمين العام للحزب حسن نصر الله، الذي أعلن في أكثر من مناسبة أن "حزب الله" لا يملك حسابات مصرفية باسمه ولا يتعامل مع المصارف أصلاً.



خيارات السلطات اللبنانية
وتبدو السلطات الرسمية في لبنان الأضعف في حلقة الصراع هذه، مع محاولة "تيار المستقبل" الحد من التأثيرات السياسية والاقتصادية للعقوبات الأميركية ضد "حزب الله"، رغم وجود رغبة عارمة في تحقيق نصر سياسي على الحزب الذي فرض بالعناد السياسي والضغط الميداني (عسكري وشعبي) إرادته على مُختلف القوى السياسية في لبنان خلال العقد الماضي. وهو ما تمثل في جر لبنان الرسمي والشعبي إلى صراع سياسي وأخلاقي وسيادي حول دور لبنان في الحرب السورية، وعدم قدرة أي جهاز رسمي أو فريق حزبي على مواجهة قرارات الحزب التي انفرد في تنفيذها تاركاً معالجة تداعياتها المحلية والدولية إلى مُختلف القوى السياسية المشاركة في السلطة.

كما انعكس أداء حزب الله في الداخل تنازلات متتالية من رئيس الحكومة الحالي سعد الحريري، الذي حاور الحزب بشكل ثنائي رغم انخراط مقاتليه في الحرب السورية، وقبِل بانتخاب ميشال عون رئيساً وهو حليف الحزب الذي طرح اسمه للرئاسة حتى قبل انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان.

ورغم تصاعد الخطاب الأميركي الحاد ضد إيران و"حزب الله" بعد جولة مفاوضات ومهادنة امتدت في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، لا تزال القوى السياسية محكومة بجملة عوامل سياسية ودستورية تُعزز من هيمنة "حزب الله"، وأهمها موقف الرئيس ميشال عون، والبيان الوزاري لحكومة الرئيس الحريري، والتحالف السياسي الذي يربط الحزب بمجموعة قوى سياسية مؤثرة إسلامية ومسيحية، كـ"حركة أمل"، و"التيار الوطني الحر"، و"تيار المردة" وغيرهم.



وبعكس الحكومة التي بالكاد تنجح في احتواء تبعات مواقف "حزب الله" وانتشاره العسكري في المنطقة، يبدو الجيش اللبناني مُحرجاً بين التنسيق مع الحزب المُنتشر عسكرياً في أكثر من محافظة لبنانية تحت عنوان "المقاومة"، وبين الداعم الدولي الأول له، أي الولايات المتحدة. وقد وجّهت المعركة التي يُعد الجيش لخوضها في جرود بلدات الفاكهة ورأس بعلبك والقاع ضد مقاتلي تنظيم "داعش" شرقي البلاد، الأنظار إلى قاعدة رياق الجوية القريبة من مسرح العمليات (تبعد 70 كيلومتراً عن العاصمة بيروت).

وفرضت التحضيرات الميدانية واللوجستية للمعركة إيقاع عمل مُكثّف على مدارج القاعدة، التي تشهد إقلاعات مُتعددة لطائرات "سيسنا" المُخصصة للتدريب بالأساس، والتي تم تعديلها لحمل صواريخ جو - أرض من طراز "هيلفاير" لضرب مواقع "داعش"، إلى جانب تسليط الضوء على هبوط طائرات الشحن الأميركية المُحملة بذخائر التي تحط أسبوعياً أو شهرياً في القاعدة حسب كثافة الطلب اللبناني على الذخائر تبعاً للتطورات الميدانية على الحدود.

وينتشر في قاعدة رياق، وهي القاعدة الجوية الأولى في لبنان، عدد غير مُحدد من العسكريين الأميركيين الذين يُشرفون على تنفيذ برامج التعاون العسكري بين لبنان والولايات المتحدة بشقيها: التدريب وصيانة المعدات الممنوحة للجيش من مدافع الميدان وطائرات "سيسنا" وغيرها. مع العلم أن هناك نوعين من المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة للبنان، يشمل الأول المساعدات السنوية والمساعدات الظرفية التي يتلقاها الجيش بناء على حاجة آنية لأنواع مُحددة من الذخيرة تسمح للجيش بتحقيق استدامة في استهداف التنظيمات المتشددة على حدوده الشرقية مع سورية.

وقد بلغ حجم المساعدات الأميركية للبنان بين عامي 2006 و2016 حوالي 1.2 مليار دولار أميركي، شملت مبالغ نقدية، وأسلحة، وذخيرة، ومعدات، وقطع بدل وتدريب وغيرها. وقد فتح انتشار عناصر "داعش" و"النصرة" على حدود لبنان وفي بعض المناطق الجردية ضمن الأراضي اللبنانية الباب أمام تطوير نوعية العتاد العسكري التي سمح الكونغرس الأميركي بتسليمها إلى الجيش اللبناني والتي أصبحت تشمل صواريخ جو - أرض وطائرات خفيفة وأخرى مُسيرة. وهي معدات تخضع لبنود خاصة ضمن الاتفاقيات العسكرية المُشتركة لضمان عدم وصولها إلى أطرف أخرى غير الجيش اللبناني، والمعني تحديداً هو "حزب الله". وتشمل قائمة البنود توقيع السلطات اللبنانية على "شهادة مستفيد نهائي"، و"شهادة انتقال التكنولوجيا". ويضمن وجود عسكريين أميركيين قرب هذه المعدات إجراء الكشف والتفتيش الدوري على العتاد، للتأكد من وجوده أولاً وللاطمئنان إلى استيفاء الشروط المحددة لتخزينه واستخدامه. كما شهد لبنان زيارتين متقاربتين لقائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال جوزف فوتل، الذي التقى المسؤولين الرسميين اللبنانيين وزار برفقة قائد الجيش العماد جوزيف عون، مراكز الجيش المتقدمة عند أطراف بلدة عرسال. غير بعيد عن عرسال وفي داخل الأراضي السورية، استعرض "حزب الله" العام الماضي مدرعات أميركية قديمة بحوزته، خلال عرض عسكري أقامه في مدينة القصير. واليوم لا يُطالب الأميركيون باسترجاع مدرعاتهم من "حزب الله" فقط، بل يُطالبون بإنهاء الحزب كحالة عسكرية عابرة للحدود.

تُجدر الإشارة إلى أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أقرّ في 11 أغسطس/ آب عام 2006 القرار رقم 1701 بالإجماع، لتحقيق وقف إطلاق نار بين الجيش الإسرائيلي و"حزب الله". وتم تعزيز قوات الطوارئ الدولية ليرتفع عديدها إلى 10 آلاف و500 عسكري من مُختلف الدول. تعرضت هذه القوات لتفجير عبوات وواجهت حالات احتجاج مُتكررة من قبل أهالي البلدات الجنوبية عند قيامها بدوريات قرب مراكز لـ"حزب الله" في الجنوب اللبناني. كما قُتل أحد عناصر هذه القوات خلال قصف إسرائيلي عام 2015، رداً على استهداف الحزب لدورية إسرائيلية في مزارع شبعا المحتلة.