واستطاع سانشيز تأمين الأصوات اللازمة للإطاحة برئيس الحكومة السابق، عبر الحصول على دعم حزب "الباسك" الذي يملك خمسة نواب، وذلك قبل ساعات من التصويت البرلماني على سحب الثقة من راخوي، الذي أضعفته فضيحة تورط مسؤولين من "الحزب الشعبي"، الذي يترأسه، في قضايا فساد. وفاز سانشيز بتصويت ليحل محل راخوي كرئيس للوزراء، في أول إقصاء لرئيس وزراء إسباني من قبل البرلمان خلال أربعة عقود من الديمقراطية وزوال حكم فرانكو. وكانت ثلاث مذكرات سابقة لطرح الثقة أعوام 1980 و1987، وأخرى ضد راخوي في 2017، قد أخفقت كلها. ومن المتوقع أن يتولى سانشيز المنصب الإثنين المقبل، ويعين حكومته الأسبوع المقبل.
وحصل سانشيز على 180 صوتاً، وهي أغلبية ضئيلة في مجلس النواب المؤلف من 350 مقعداً، مع معارضة 169 صوتاً، وامتناع نائب واحد عن التصويت على مذكرة حجب الثقة بحق رئيس الحكومة المحافظ الذي تولى منصبه لأكثر من ست سنوات. وكانت إدانة "الحزب الشعبي" في قضية "غورتل"، لاستفادته من أموال تم الحصول عليها بطريقة غير مشروعة، القضية التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى راخوي. وفي هذه القضية، توصل القضاة إلى وجود "نظام فساد مؤسساتي متأصل" بين "الحزب الشعبي" ومجموعة خاصة عبر "التلاعب بالصفقات" ووجود "أموال سرية مصدرها غير واضح" داخل الحزب. وشككوا في مصداقية راخوي الذي نفى وجود هذه الأموال.
وقبل التصويت، أقر راخوي، الذي حكم ست سنوات حتى إدانة حزبه بالفساد، بأن غالبية من النواب ستوافق على مذكرة حجب الثقة التي تقدم بها الحزب الاشتراكي. وقال "يمكننا أن نستنتج أنه سيتم تبني مذكرة حجب الثقة. بنتيجة ذلك، سيصبح بيدرو سانشيز رئيس الحكومة الجديد"، قبل أن يهنئ خصمه. وبذلك تطوى صفحة من تاريخ إسبانيا. فقد صمد راخوي (63 سنة)، الذي يحكم البلاد منذ ديسمبر/ كانون الأول 2011، أمام أزمات كبرى من الانكماش الذي اضطر لفرض إجراءات تقشفية قاسية لمواجهته، وأشهر من الشلل السياسي في العام 2016 وصولاً إلى محاولة انفصال إقليم كتالونيا العام الماضي. وقال سانشيز، أستاذ الاقتصاد السابق الذي يوصف بأنه "رجل إسبانيا الوسيم"، قبيل التصويت: "اليوم نكتب صفحة جديدة من تاريخ الديمقراطية في بلدنا". ويبدو أن سانشيز (46 سنة)، ثأر لنفسه، بعدما رفض النواب مرتين ترؤسه الحكومة في مارس/ آذار 2016 قبل أن يسجل في يونيو/ حزيران من السنة نفسها أسوأ نتائج في تاريخ الحزب الاشتراكي في الانتخابات التشريعية. وقد خرج من الحزب بعد هذه الهزيمة الانتخابية ثم عاد إلى قيادته العام الماضي بدعم من القاعدة المعارضة "لبارونات" الحزب الاشتراكي.
ونشأ سانشيز، المولود في 29 فبراير/ شباط 1972 في مدريد، في عائلة ميسورة، فوالده رجل أعمال وأمه موظفة. درس الاقتصاد في العاصمة الإسبانية ثم حصل على الإجازة في الاقتصاد السياسي من جامعة بروكسل الحرة. وأصبح سانشيز الذي انتخب عضواً في مجلس بلدية مدريد من 2004 إلى 2009، نائباً في 2009 بعد استقالة صاحب المقعد، ثم عرف صعوداً مدوياً. وفي 2014، وصل إلى رئاسة الحزب الاشتراكي الذي أضعفته أول انتخابات تمهيدية في تاريخه، وحل وراء راخوي في انتخابات ديسمبر/ كانون الأول 2015. وفي سياق الشلل السياسي الذي تلا ذلك، حاول من دون نجاح تشكيل حكومة بدعم من "سيودادانوس" و"بوديموس". وأجريت انتخابات جديدة في يونيو/ حزيران 2016، وتراجع الحزب الاشتراكي من جديد، مسجلاً أسوأ نتيجة منذ إحلال الديمقراطية في 1977. عندئذ فصلت قيادة الحزب سانشيز وحملته مسؤولية الفشل. لكنه عاد من الباب الواسع في مايو/ أيار 2017، بعدما قام بحملة بالسيارة في كل أنحاء إسبانيا لرص صفوف الناشطين الذين سيصوتون من أجل إعادته إلى رئاسة الحزب.
وقاد سانشيز حملة ضد راخوي منذ الإعلان، قبل نحو أسبوع، عن إدانة "الحزب الشعبي" في فضيحة فساد كبيرة أطلق عليها اسم "غورتل" ونجح هذه المرة في ضربته السياسية. لكنه اضطر لتحقيق أغلبية متنوعة تضم الاشتراكيين (84 نائباً)، واليساريين الراديكاليين في حزب "بوديموس"، والاستقلاليين الكتالونيين والقوميين الباسكيين. وقال زعيم كتلة نواب "الحزب الشعبي"، رافاييل إيرناندو، إن "سانشيز يريد أن يصبح رئيساً للحكومة بأي ثمن، لكنه سيدخل إلى لامونكلوا (مقر رئاسة الحكومة) من الباب الخلفي". لكن من غير المعروف إلى متى سيتمكن سانشيز، الذي وعد باتخاذ إجراءات اجتماعية وبالدعوة إلى انتخابات مبكرة، من البقاء على رأس الحكومة مع أغلبية نيابية متنوعة تبدو غير مستقرة. ولإقناع الباسكيين، تعهد سانشيز لهم بعدم المساس بالميزانية التي تتضمن مخصصات كبيرة لمنطقة الباسك. كما وعد انفصاليي كتالونيا بأنه سيحاول "بناء جسور الحوار" مع حكومة كيم تورا.
ويعتبر فوز سانشيز مهماً لثلاثة أسباب، فهو أول زعيم حزبي يستطيع الإطاحة برئيس حكومة عبر سحب الثقة في البرلمان. كما أنه ليس نائباً في البرلمان، بالإضافة إلى أن إسقاط راخوي جاء بعد أقل من عامين من الإطاحة به كرئيس للحزب الاشتراكي لرفضه وقتها تسهيل عودة راخوي لرئاسة الحكومة بعد انتخابات تشريعية غير حاسمة. لكن يبدو أن ولاية سانشيز ستكون مضطربة، إذ إن على حكومته التعامل مع المطالب المختلفة للأحزاب التي دعمت إسقاط راخوي، ووصوله بالتالي لرئاسة الحكومة، وتنفيذ وعده بإجراء انتخابات مبكرة. كما أن عليه التعامل مع قضية إعلان إقليم كتالونيا الانفصال عن إسبانيا، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية والفساد السياسي. وحذرت صحيفة "ألباييس" الإسبانية من أن سانشيز لا يملك القدرة على قيادة حكومة متجانسة ومستقرة، مشيرة إلى وجود مخاوف من التوجه إلى أزمة ضخمة، إذ إن الحزب الاشتراكي لا يملك سوى 84 نائباً. واعتبرت أن حُكم بلد، يواجه أزمات اقتصادية واجتماعية وتحديات لإبقائه موحداً، عبر التوصل إلى اتفاقات متفرقة مع أحزاب أخرى، سيؤدي، من دون شك، إلى زيادة عدم الاستقرار وعدم الثقة بالمؤسسات الإسبانية.
وقال المحلل في مكتب "تينيو إنتليجنس"، أنطونيو باروسو، إن الزعيم الاشتراكي ينوي دفع النواب إلى تبني تدابير اجتماعية بسرعة "من أجل تعزيز شعبية الحزب الاشتراكي في إسبانيا"، وبهذه الطريقة خوض الانتخابات المبكرة المقبلة من موقع أفضل، علماً أن استطلاعات الرأي تشير إلى تصدر حزب "سيودادانوس". وقال أستاذ العلوم السياسية في جامعة مدريد المستقلة، فرناندو فالسبين: "لقد شاءت الصدف أن يحظى بفرصة للقيام بدور أساسي"، بعدما خاض "رهاناً محفوفاً بالمخاطر". وأضاف أن ما قام به سانشيز كان "ضربة اليائس الأخيرة" بعدما كان الحزب الاشتراكي في حالة تراجع وفي "الخطوط الخلفية" بعيداً عن الخطوط السياسية الأولى التي يشغلها "الحزب الشعبي" و"سيودادانوس" و"بوديموس" اليساري الراديكالي. ورأى أن "سانشيز سياسي جريء، لكن قرارته لا تنم عن تفكير متأن وهو يفكر على المدى القصير".
إلى ذلك، وافقت الحكومة الإسبانية، أمس الجمعة، على بدء مهام الحكومة الكتالونية الجديدة التي لم تعد تضم "وزراء" مسجونين أو في الخارج، وهو الشرط الأساسي لرفع الوصاية عن المنطقة. ونُشرت لائحة السلطة التنفيذية الجديدة، التي شكلها، الثلاثاء الماضي، الرئيس الكتالوني، كيم تورا، في الجريدة الرسمية لحكومة كتالونيا، أمس. ولم تنشر اللائحة إلا بموافقة الحكومة المركزية التي وضعت المنطقة تحت إشرافها المباشر بعد محاولة الانفصال الخريف الماضي. ورفضت مدريد نشر أول تشكيلة حكومية لتورا في 19 مايو/ أيار الماضي، لأنها كانت تشمل أربعة وزراء مسجونين أو منفيين في بلجيكا منذ إعلان الاستقلال غير المجدي في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وسيسمح نشر تشكيلة الحكومة في الجريدة الرسمية بتولي هذه الحكومة مهامها، ما سيؤدي بشكل آلي إلى رفع الوصاية التي رفضتها مدريد على هذه المنطقة الغنية في شمال شرق إسبانيا.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)