أوليفيا إلياس.. اسمكِ من فلسطين

27 ديسمبر 2018
(أوليفيا إلياس)
+ الخط -

وُلدت أوليفيا إلياس بحيفا في فلسطين المحتلّة. لجأت مع عائلتها إلى بيروت أيّام النكبة، ثمّ هاجرت إلى كندا حيث واصلت دراستها الجامعية ودرّست العلوم الاقتصادية إلى حدود الثمانينات. منذ تلك الفترة، تقطن بفرنسا، ماعدا الفترة بين 2005 و2009؛ حيث انتقلت للعيش والعمل في مصر وسورية.

تكتب إلياس منذ نعومة أظفارها، رغم أنّها لم تقرّر نشر أعمالها إلّا قبل سنوات قليلة. أصدرت منذ 2013 إلى اليوم ثلاث مجموعات شعرية؛ هي: "أنا من ضفّة التّراب تلك"، و"الأمل كحماية وحيدة" مع مقدّمة لجون فيليب تنسلان (2015)، و"اسْمُكِ من فلسطين" (2017) عن "منشورات المنار" في باريس.

لها أعمال جديدة قيد الطبع؛ هي: "فوضى، عبور" الذي سيصدر بداية 2019، كما صدرت لها خلال هذه الأيام قصيدة في الكتاب الجماعي "ريكويم من أجل غزّة" الصّادر مؤخّراً عن "منشورات "كولور غنغ"، بتحرير فنسان كالفي وأيمن حسن، وتقديم أدونيس.

يمكننا الانطلاق من كتاب "اسْمُكِ من فلسطين" للتعرّض لشعريّة إلياس التي لا تعمل على قصائد أو نصوص شعرية، بل على كتب في شكل قصائد مطوّلة تراوح بين الطابع الملحمي والغنائي والموسيقي على حدّ سواء.

على سبيل المثال، تعرّف الشاعرة كتاب "اسْمُكِ من فلسطين" على أنّه "نصّ من أجل ممثّلين، مع عازف (عود، ناي، مزمار...)"، علماً أنّ النص مقسّم إلى 13 قصيدة أو مقطعاً شعرياً تتراوح بين البيت الحرّ والنثر الشعري، تفرّق بينها في البداية والنهاية كلمة "موسيقى"، وكأنّها لازمة شعرية أو موّال موسيقي:

موسيقى
1

وُلدْتُ في بلاد الجمال
الجمال في الخلف
الجمال في كلّ مكان
وأنا نائمة في المهد أغرقت
عينيّ في زرقتك المثاليّة
حتّى أنّي غرقتُ إلى الأبد

في النور الأوّل
كل شيء يأتي في اللحظة ذاتها
مع، إلى جانبه، ظلّه الجانبيّ

شجرة  عصفور  زهرة
طفل  فتاة  يافعة

هي دائما ألعاب النّور والهواء
ما بين البحر والسّماء الهضاب والصحراء
في عبير أشجار اللّوز والياسمين


بأيّ معجزة تنتظم
هذه الموسيقى الحمراء الزرقاء مع الذهب
المنقّطة بنوتات فضّية
وبالشعلة السوداء للسروة؟
موسيقى تمكّن من سماع
صوت البشر
قشعريرة الأحاسيس التي تغلّف
كلّ شيء

طالما بحثُ عن الكلمات
لأقول جمالك
عزفتُ عن ذلك
شعراء أكثر من الشعراء
الرسّامون دلّوني
عن طريقك
كي أتمكّن من حلّ لغزك

يجب الغوص فيه تماماً
تذوّق فواكهك المغمورة بالعصارة
السماح لنوافيرك بالجري في شراييننا
خوض تلك التجربة الفريدة
أن نكون على صورتك خالدين ومواليد جدد

جمالك الحارق يا فلسطين يمشي
إلى جانبنا على طريق الغربة
مع، في جراباتنا
شيء من هذه الأرض الحمراء
تعويذة في معبد الغائبين

موسيقى.

هذه هي عوالم أوليفيا إلياس الشعرية: حنين إلى النبع الأوّل، إلى ماء وهواء وتراب فلسطين التي حُرمت منها صغيرة. تشبه في ذلك الشاعر الراحل محمود درويش، ويمكن القول بأنّها مقابله الأنثوي أو صوته  بالفرنسية.

حقّاً، تشبه أوليفيا إلياس محمود درويش، ويمكن لدارسي الشعر العربي الناطق بالفرنسية من جهة ولدارسي التناصّ في الشعر العربي الحديث عبر علاقته بلغات وثقافات وحضارات العالم من جهة أخرى أن يفكّروا في ما سمّاه درويش "فلسطين كمجاز" أو "فلسطين كصورة شعرية" عبّر عنها، من خلال هاتين التجربتين، بطريقة متناغمة بالرغم من اختلافها، موسيقية بالرغم من صوت الرصاص ودويّ القنابل، جميلة بهيّة بالرغم من الموت والدم والتهجير والمخيّمات.

لمعاينة ذلك، يمكننا قراءة قصيدة جديدة لأوليفيا إلياس، تحت عنوان "تحت أشجار التفّاح":

لطالما نهضتُ متأهّبة للقتال
وأنا أخلدُ للراحة تحت أشجار التفّاح
فهمتُ أنّنا أناس ضاربون في النقصان
بقي لي شيئان أو ثلاثة للتأكّد منها
هل صحيح أنّ الكثير من الغضب يقتل الغضب كحفر سوداء تلتهم النجوم؟
ما الفرق بين الركض وراء السعادة وانتظار أن تلج البيت بخطوات قط؟
كيف نحلُّ معادلة مصير بلد الغائبين والحاضرين الغائبين من البلدان الّتي تلعب الغمّيضة مع الوجود؟

نعم، تذكّرنا هذه الشعرية ببعض كتابات درويش النثرية مثل الكتاب الباريسي "ورد أقلّ" (1986) أو يوميّاته الشعرية المنشورة قبيل رحيله بأشهر، "أثر الفراشة" (2008). هو الشعر نثراً وفلسفةً وموسيقىً في نفس الوقت. هي تجارب وجودية فريدة من نوعها في ظلّ الاحتلال والغربة والتغرّب والاستغراب من حيف العالم ونفاقه وصمته أمام آلة الحرب المبرمجة للفتك بالضعفاء. وهذا صوت أوليفيا إلياس ينضمّ إلى شعراء القضية الفلسطينية، صوتاً ناطقاً بالفرنسية وحاملاً لأبعاد فلسطينية موغلة في الإنسانية والكونية.


* شاعر ومترجم تونسي والقصيدتان في المقال من ترجمته

المساهمون