في نهاية شهر نيسان/ إبريل 1879، حضر السير لورانس أوليفانت Laurence Oliphant الدبلوماسي السابق وعضو البرلمان البريطاني إلى دمشق في ختام رحلة سرية شملت مناطق سنجق حوران شرقي نهر الأردن، وتحديداً في الجولان وعجلون، بهدف وضع تصور لبرنامج استيطاني يهودي ذي طبيعة زراعية.
وكما قال أوليفانت في كتابه "أرض جلعاد"، فقد حصل على موافقة مدحت باشا على مشروعه حين قابله في دمشق، ولكنه اشترط موافقة الأستانة. ويبدو أن الوالي أراد تكريم ضيفه فدعاه لحضور مسرحية "عايدة"، التي كانت تؤديها فرقة أبي خليل القباني، فكتب أوليفانت أن "المسرح العربي" القائم على أسس شبه حضارية، هو من منجزات مدحت باشا.
وروى أنه ذهب إليه ذات ليلة مع صاحب السعادة وفوجئ بالمظهر الحضاري للمسرح، فقد كان هناك قاطع تذاكر عند المدخل ومقاعد مرتبة بعناية ومليئة بالمشاهدين الذكور حصراً، وتم حجز الصف الأول من المقاعد للحاكم وحاشيته كما شاهد فرقة موسيقية مؤلفة من عازف عود وقانون وناي وضارب دف ومطرب، وكانت هذه الفرقة تحتل منصة في زاوية المسرح.. أما الستارة فقال إنها زينت بكتابات ورموز عربية، وكانت ترتفع وتنخفض بشكل راقص غير منتظم، وكان الممثلون يغنون، ولم تتغير المناظر طوال مسرحية "عايدة" التي سبق لجوزيبة فيردي أن حولها إلى أوبريت".
ولد لورانس أوليفانت في غرة عام 1829 في كيب تاون في جنوب أفريقيا لوالد يعمل مدعياً عاماً في مستعمرة الكيب البريطانية. لكن سرعان ما تم نقله ككبير قضاة إلى جزيرة سيلان، ولذلك كانت تربية ابنه الوحيد لورانس مفككة جداً.
بعد ذلك صحب والديه اللذين كانا بروتستانتيين متشددين خلال عامي 1848 و1849 برحلة في قارة أوروبا، قبل أن يرافق جانج باهادور من كولومبو عاصمة سيلان إلى كاتماندو عاصمة نيبال. حيث تمكن من نشر كتابه الأول "رحلة إلى كاتماندو" (1852)، ثم استقر في إنكلترا، وأمضى وقتاً وهو يدرس القانون.
قام برحلات إلى روسيا والقوقاز وعمل سكرتيراً لدى العديد من اللوردات ونشر عدداً من الكتب حول ذلك.
سافر عام 1856 إلى الولايات المتحدة مراسلاً لصحيفة "ذا تايمز" وزار ولاية نيو أورليانز الجنوبية، وفي عام 1861 تم تعيينه سكرتيرا أول في البعثة الدبلوماسية البريطانية في اليابان، غير أن حياته الدبلوماسية انتهت بشكل مأساوي عندما تعرض لمحاولة اغتيال خلال هجوم ليلي على السفارة البريطانية أسفر عن إصابته بجروح بليغة كادت تودي يحياته.
وبعد أن عمل في الصحافة وساهم بأول عشرة أعداد من مجلة "البومة" السياسية، تم انتخابه عضواً في البرلمان البريطاني عام 1865 عن مقاطعة ستيرلنغ.
لم يظهر أوليفانت أيّ قدرات برلمانية مميزة، لكنه حقق نجاحا كبيراً عندما نشر روايته "بيكادللي" عام 1870. بعد ذلك وقع تحت تأثير مشعوذ مدع للنبوة يدعى توماس هاريس، سبق أن أسس عام 1861 طائفة دينية سماها "أخوية الحياة الجديدة". وحزم أوليفانت أمره وهاجر إلى الولايات المتحدة حيث انضم إلى هذه الأخوية التي تعتمد على فلسفات مثالية ونزعات قيامية.
أصبح أوليفانت من أشد أتباع هاريس حماسة وعمل في المزرعة الخاصة بأتباع الطائفة، وانضمت إليه أمه بعد فترة، لكن قوانين هذه الطائفة حالت دون التقائهما كنوع من الاختبار في أول الأمر.
وبعد أن ذهب مراسلاً حربياً لصحيفة "ذا تايمز" في الحرب الفرنسية الألمانية تلقى إشارة من هاريس فعاد إلى الأخوية مجدداً وسمح له أن يعيش مع أمه. وهناك قابل ألس هنري لي سترانغ الفتاة التي أصبحت زوجته في ما بعد وانخرطت في طائفة "العالم الجديد" بعد أن أخذا موافقة هاريس الذي حصل على كامل أملاك العروس وتم تنظيم العلاقة بين الزوجين وفق مبادئ الطائفة.
في عام 1873 أرسل هاريس أوليفانت وزوجته وأمّه إلى بروكتون حيث عملت الأم والزوجة في أعمال وضيعة، أما أوليفانت نفسه فقد تفرغ لأعمال تجارية لصالح الطائفة.
في هذه الأثناء بدأ أوليفانت بوضع خطّة متكاملة لاستيطان اليهود في سورية الجنوبية بما فيها فلسطين والجولان وشرق الأردن، وفي عام 1879 قام برحلة إلى ولاية سورية العثمانية، حيث جال في الجولان ومنطقة شرق الأردن ووضع كتابه "أرض جلعاد" الذي نشر بالإنكليزية عام 1880، حيث يشرح فيه أفكاره حول هذا الموضوع، وهو يحاول الحصول على دعم لخطته من السلطنة العثمانية لكنه فشل في ذلك.
يبسط أوليفانت أفكاره حيال هذه الأرض التي ينظر إليها بمعزل عن سكانها الأصليين، فالهاجس الذي كان مسيطراً عليه، بفعل أفكاره البروتستانتية المغرقة في تطرفها، تقريب موعد القيامة عبر إعادة اليهود إلى الأراضي المقدسة الواقعة على جانبي وادي الأردن حسب الفهم "الكتابي" (التوراتي)، ولذلك تجده في مقدمة كتابه يحاول أن يبرر هذا الأمر منطقياً بعرضه مجموعة من الاحتمالات التي تستقر على اليهود وحدهم.
فحسب مشروعه الاستيطاني الذي يهدف إلى النهوض بـ "واقع السلطنة العثمانية" وتخليصها من عثراتها، يقترح تأسيس شركة مساهمة لإقامة مستوطنة أو مستوطنات في مناطق مختلفة من فلسطين والجولان وشرق الأردن، ويعرض بطريقة "المنطق الصوري" جلب مستوطنين غربيين مسيحيين إلى هذه المستوطنات، ولكنه يقرر أن الأوروبيين يتطيرون من فكرة أن يصبحوا رعايا تحت حكم السلاطين العثمانيين، ثم يقترح توطين المسلمين الذين أخرجوا من ديارهم في بلغاريا ورومانيا ومعظمهم من الشراكسة المهجرين سابقاً من شمال القوقاز، لكنه يشكك برغبة الدول الأوروبية في تمويل مثل هذا المشروع الذي يخص المسلمين وحدهم.
ولذلك فالحل السحري الذي يخرج به هو اليهود، وخصوصاً يهود أوروبا الشرقية الذين يعانون من اضطهاد يجعلهم يفضلون العيش تحت حكم العثمانيين على أن يبقوا تحت حكم الدول التي يعيشون في كنفها، نظراً للتسامح والرعاية اللذين يسبغهما السلاطين العثمانيون على رعاياهم اليهود، تلك الرعاية الموثقة بفرمان للسلطان عبد المجيد عام 1840.
غير أن هذه الأفكار جوبهت بمعارضة شديدة من السلطان عبد الحميد الذي عاقب مدحت باشا والي سورية والصدر الأعظم وباقي الوزراء الذين وافقوا على المشروع الاستيطاني بطردهم جميعاً من مناصبهم، بل ووصل الأمر به إلى إعدام مدحت باشا في سجن الطائف في الحجاز. ويشير أوليفانت إلى معارضة المسيحيين العرب لهذه الفكرة الاستيطانية ووقوفهم إلى جانب السلطان في رفضها، مما يجعله يصب جام غضبه عليهم في متن كتابه.
اختار أوليفانت مجموعتين من أهالي الجولان للتوقف عندهما ومراقبة حياتهما وهم العلويون (النصيرية) والذين يحمل عنهم الكثير من الأفكار المغلوطة، والشراكسة الذين كانوا منهمكين في بناء قراهم التي منحتهم إياها السلطنة العثمانية، مثل المنصورة والقنيطرة والصرمان وغيرها.
ويبدو أن أوليفانت أراد أن يرى كيف يمكن لطائفة دينية أو أقلية قومية أن تعيش أو تتأقلم مع وسط يفترض بأنه مختلف، ومن المؤكد أنه أصيب بخيبة أمل من لقائه مع شيخ قرية عين فيت [سعيد أفندي الحسين] نظراً للتحفظ الشديد الذي أبداه في الإجابة عن أسئلته المثيرة للريبة. إلا أنه حصل على ما يريد معرفته حول الشراكسة الذين كانوا يخوضون تجربة أثارت إعجابه في بناء مجتمع جديد.
وعموماً فأوليفانت مؤمن بالحق التاريخي المزعوم لليهود في فلسطين والجولان إيماناً مطلقاً، ونظرته إلى إنسان هذه البلاد لا تخرج عن كونها نظرة استعلائية تفتيتية حاقدة لا ترى سوى الأقليات والطوائف، وتحاول أن تختصر الشخصية العربية بتصرفات غير منضبطة لبعض القبائل البدوية الخارجة عن طاعة السلطنة العثمانية، نتيجة عسف وجلافة ملتزمي جباية الأموال. وفي ما يلي مقتطفات من هذه الرحلة المهمة.
في سهل الحولة
بعد أن عبر السير أوليفانت جسر الغجر الواقع على نهر الحاصباني، وجد نفسه في مضرب خيام بدوي منصوب في بقعة منخفضة من الأرض، ما زالت إلى حدّ ما عذراء غير مزروعة، ويستخدمها البدو مراعي لأغنامهم وجمالهم. وفي هذه البقعة رأى أوليفانت قطعاناً كبيرة من الجاموس تنتشر في سهل الحولة.
ويبدو أن مضرب الخيام هذا يعود إلى الغوارنة، الذين يكتشف أنهم ذوو طباع حسنة ومسالمة، رغم ما يحمله عنهم من أفكار مسبقة عززتها قصة سلب إنكليزي وأميركية في هذه الناحية. ويعزو أوليفانت ذلك إلى عدم قدرة العرب الغوارنة على مقاومة هذه النزعة الطبيعية للخروج على القانون!
وعندما يصل إلى تل القاضي الذي يزعم أنه موقع مدينة دان القديمة. يأخذ قسطاً من الراحة تحت ظلال شجرة كبيرة تتدلى فوق النهر، ثم يستمتع هو وصاحبه بالسباحة والغوص في نبع الماء المتدفق بغزارة كبيرة.
ثم يسترسل في سرد التاريخ التوراتي (!) لهذا الموقع على اعتبار أن اسم دان أطلق على المدينة بعد وصول أحد أبناء إسرائيل إليها وكان يدعى دان. وحسب ما ذكر فإن اسم هذه المدينة كان يدعى لايش، ولكنه وجد أن اسمها كان دان، قبل تلك الواقعة بخمسمائة سنة، اعتماداً إلى التواريخ الدقيقة للأحداث وترتيبها كما وردت في التوراة!!
والمقصود هنا بكلام أوليفانت حادثة وقعت مع النبي إبراهيم، عندما سمع عن وقوع النبي لوط في الأسر، فقام وسَلَّح خدمه المدربين، وأرسل بهم إلى دان.
ويفسر أوليفانت هذا التناقض بأن الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، قد تم تنقيحها وتهذيبها، وإعادة كتابتها بشكل متحيِّز بعد أن وطد بنو إسرائيل أقدامهم في الأراضي المقدسة.
ويصل أوليفانت وصحبه إلى بانياس وينامون فيها ليلة ويكتشف أن هذه البقعة من الأرض تشكل ملتقى للحضارات. ويقول إنها قيصرية فيليبي القديمة، والتي يعتقد أنها أقصى نقطة في الشمال زارها السيد المسيح، وفيها وجد نفسه محاطاً بالأضرحة والهياكل المكرسة لعبادة الأوثان وهي أمور بغيضة بالنسبة له. وكانت الطقوس والاحتفالات المقدسة تقام فيها للإله بان والذي استمدت المدينة اسمها منه. ويعتقد أوليفانت أن بانياس، من خلال الآثار القائمة فيها والتي تشير إلى العظمة والجمال، كانت ولا بد واحدة من أجمل وأعظم مراكز المعتقدات الأسطورية.
عند شيخ بانياس
ويشير أوليفانت إلى أن الحجارة الضخمة المليئة بالنقوش كانت ولا شك ذات يوم تزين جدران المعابد أو القصور، إضافة إلى قطع الأعمدة وتيجانها التي تنتشر في المكان بشكل كثيف.
بعد ذلك يتحدث أوليفانت عن حفاوة الاستقبال الذي لقيه من الشيخ إسماعيل العرقاوي، والذي استقبل أيضاً شيخ الدروز حيث بدا أنهما يرتبطان بصداقة متينة بدليل العواطف الجياشة التي لاحظها عليهما، وتبادلهما القبل على الوجنتين، وبعد ذلك توالى قدوم الضيوف وبعضهم من قرى بعيدة.
وقد شعر أوليفانت بالرعب عندما هبط الليل، حيث قام الجميع للصلاة، قبل أن يذهبوا جميعاً إلى النوم بكل بساطة على الأرض.
وبفضل معرفة مرافقه الكابتن فيبس للمنطقة وجد أوليفانت طريقه من دون صعوبة، واختصر الوقت والجهد للوصول إلى قرية عين فيت.
ويلفت أوليفانت النظر إلى أن بعض الأدلاء والمترجمين يبالغون في ذكر مخاطر البدو في هذه المنطقة بغية الابتزاز والحصول على مبالغ إضافية. وتلافياً للوقوع بمثل هذا الفخ اتخذ أوليفانت حذره وسار هو وصاحبه وطباخه اللبناني بتواضع وبأخف الأحمال ومن دون تظاهر بالبذخ، لكي لا يشكل ذلك مصدر طمع لسلاب البدو.
قرى نصيرية
وبعد أن يعبر بوابة بانياس الجنوبية، حيث شاهد بناء جميلاً عليه كتابات عربية، وجدرانه قديمة جداً، عبر أوليفانت وصحبه الجسر الحجري القديم القائم على وادي السعار، وبدأوا بالصعود التدريجي إلى قرية عين فيت، حيث كانت فرصته الوحيدة، لرؤية أبناء هذه "الطائفة المميزة"، حسب تعبيره.
ويصف أوليفانت هذه القرية بالكثير من العجرفة، حيث يلاحظ أنه من الصعوبة بمكان معرفة مسكن الشيخ أو زعيم القرية من مساكن الآخرين. ويتحدث عن ضيق الشوارع وجدران الغرف الطينية المنخفضة والتي تخلو من أي ثقب أو فتحة باستثناء مدخنة في السقف لتصريف الدخان. ويذكر وجود أفنية في تلك البيوت تضم زرائب مكشوفة.
ثم يتحدث عن تجمع النساء، كالمعتاد، حول النبع وهن يحملن جرار الماء، وعن جلوس مجموعات الرجال القرفصاء في أزقة القرية، مدعياً أنهم مغتابون وفضوليون، ولا يبدو عليهم أي ملامح للكرم!!
ويبدو أن نظرات التقزز والاحتقار التي كانت تحيط بموكب السير أوليفانت وصحبه من قبل أهالي عين فيت هي التي جعلته يأخذ عنهم ذلك الانطباع السيئ.
وفي مضافة شيخ عين فيت سعيد أفندي الحسين الخالية من النوافذ، كما يقول وذات الموقد الحجري والسجادتين اليدويتين، يقدم لهما القهوة المرة.
ويبدو أن الشيخ سعيد الحسين قد خمن أن هؤلاء الرجال هم طلائع قوات بريطانية أتت لاحتلال المنطقة، ولكن أوليفانت أكد له عدم صحة هذه الأخبار التي يتناقلها الناس هنا.
بعد ذلك يصعد أوليفانت وصحبه إلى قرية زعورة القائمة فوق عين فيت، ويلاحظ أنهما محاطتان بحقول مزروعة وحدائق. وفي طريقهم يدخلون في غابة من أشجار البلوط تطل على سهل الحولة.
فيما كانت قرية بانياس تحتهم مباشرة، وبدت لهم من البعيد قلعة الصبيبة التي تتوج قمة تل هناك ويظهر خلفها جبل حرمون المكلل بالثلوج. ويزعم أنها ذات أصل فينيقي، ثم قلعة للإسماعيلية، في ما بعد، ثم للصليبيين. ويؤكد أنها أكثر القلاع سلامة في سورية.
ويصف المنظر من موقعه فيذكر جبال الجليل وهي تسد الأفق من خلف الحولة، وجبل الجرمق في العمق البعيد، وأطلال قلعة هونين التي تبدو واضحة للعيان في الجهة المقابلة. أما من جهة اليمين، فيتحدث عن قلعة بلفورت (الشقيف) المطلّة على نهر الليطاني.
وينقل أوليفانت قولاً قديماً من أيام الحروب الصليبيبة مفاده أن من يسيطر على قلعة بانياس (الصبيبة)، وهونين وبلفورت (الشقيف) وتبنين، فإنه يكون سيداً للمنطقة.
بعد ذلك يتحدث عن وجود بقايا طريق روماني يربط بانياس بمدن الجولان، وبقايا آبار تجميع للمياه منتشرة في المكان.
الطريق إلى القنيطرة
وفي طريقهم إلى القنيطرة يشاهدون على مسافة بعيدة مضارب عرب الفضل، والتي يقول إنها قبيلة مهمة، يبلغ تعداد مقاتليها ألفي مقاتل مشهورين بشجاعتهم في القتال، ويحمون هذه المراعي.
ويشير إلى سلسلة جبال هيش البازلتية التي تتراوح ارتفاعاتها بين 500 و1000 قدم، وتمتد من الشمال إلى الجنوب. ويذكر أن السفوح الغربية، لهذه المرتفعات تتميز بكثرة أشجار البلوط والبطم المتشابك.
ويقول إنه إذا استثنى مضارب عرب الفضل، فإن المنطقة خالية من السكان، وعلى مدى أربعة وعشرين ساعة من قرية عين فيت إلى مشارف القنيطرة.
ويصادف أوليفانت قبل وصوله إلى القنيطرة مستوطنة جديدة للمهاجرين الشركس، (من المرجح أنها قرية المنصورة)، ويتحدث عن ثلاثمائة شركسي مشغولين ببناء المرحلة الأولى من القرية التي خصصت أراضيها لهم. ويشير أوليفانت إلى أن الآثار الموجودة في القرية والحجارة الكبيرة الصالحة للبناء، تنبئ بأنها كانت بلدة مأهولة في سالف الأيام.
ويذكر أن الذين لم ينجحوا في تأمين سقوف لمنازلهم أقاموا خياماً مؤقتة، ريثما ينتهون من بناء بيوتهم.
ويؤكد أوليفانت أن هؤلاء المهجرين الشراكسة قد جاؤوا من بلغاريا، وأن الموجودين في القنيطرة الآن جاء أغلبهم من منطقة ودّين البلغارية تحديداً.
ويبدو أن هذه التجربة قد أثارت اهتمام أوليفانت الذي حرص على تطويل وقت إقامته في هذا المكان بدعوى تناول الغداء لكي يتسنى له مراقبة طريقة عمل هؤلاء الرجال في بناء جدران البيوت. ويشير إلى أنهم كانوا يعملون تحت إشراف رئيس لهم انشغل مع بدوي في تقديم واجب الضيافة لهم.
وبعد ساعة من مغادرتهم لهذه البلدة الناشئة يصلون إلى القنيطرة، حيث يلتقون في طريقهم شيخاً بدوياً يحمل رمحاً مسموماً، ويركب جواداً عربياً أصيلاً راح يعدو بأقصى سرعته، باتجاه مركز إقامة قائمقام القنيطرة الذي يعتبر حاكم المنطقة، فتبعوه.
ويشير إلى أن أهمية القنيطرة قد زادت بعد وصول المهاجرين الشراكسة إليها، وغدت هي المركز مما يرشحها للمزيد من الإعمار والازدهار.
مجلس محلي
ويقدم لنا أوليفانت وصفاً نادراً لوقائع اجتماع مجلس إدارة قضاء القنيطرة الذي كان يترأسه القائمقام محمد رفعت بك (حسب السالنامة العثمانية في ذلك التاريخ).
"كان حسن الفاعور يجلس إلى جانب القائمقام ويحتل موقعاً مماثلاً له من حيث الدرجة الرفيعة، إضافة إلى كونه أميراً لقبيلة الفضل، وقد ألفيته رجلاً مهذباً عمره بين الخمسين والستين، عليه سمات الوقار والرزانة والسلوك العريق النبيل. ويأتي بعد حسن الفاعور رجل آخر هو الشيخ موسى (آغا خليفة) زعيم التركمان الذين أتوا إلى هذه الديار في سالف الأزمان قادمين من جوار بحر قزوين، وقد شعرت بالأسف والحزن الشديد عندما لم أجد تفاصيل تاريخ هذه القبيلة لدى الشيخ موسى الذي يتمتع بسيماء الذكاء والرزانة، إضافة إلى ملامحه الناعمة المريحة. وهذا الشيخ هو صاحب الكلمة الفصل على ألف مقاتل. ورغم أنه يتكلم العربية، إلا أن قبيلته ما زالت تحتفظ بلهجتها التركية القديمة".
"وبعد هؤلاء يأتي في الدرجة والمقام شيخ آخر لا توجد عليه ملامح الزهو، وهو الذي مررنا به مع رجاله قبل نصف ساعة من وصولنا إلى هذا المكان، ويدعى الشيخ عوض الأحمد (الطحان) شيخ عشائر النعيم. وهو الأشهر بين بدو هذه الديار بالشجاعة والبسالة في ساحات المعارك، حيث يخضع لزعامته ما يزيد على أربعة آلاف مقاتل. وهناك زعيمان أو ثلاثة، من زعماء البدو، الأقل أهمية، يقابلهم من طرفنا مجموعة من الدروز وعلى رأسهم شيخهم، أتوا من بلدة مجدل شمس ليقدموا احتجاجهم للمجلس المحلي ضد مصادرة الفحم التي فرضت ضريبة على أهالي المجدل من قبل متصرف لواء حوران المقيم في بلدة الشيخ سعد. ويبدو أن الوضع يستدعي التعاطف مع الدروز في هذه القضية، إلا أن الذوق استدعى مغادرتنا للمجلس، مما حرمنا من معرفة ما أسفرت عنه المناقشة والبحث. ولكن الحقيقة التي بدت لنا أن ثلاثة أو أربعة من زعماء القبائل كان عليهم أن يتركوا مضاربهم ليحضروا إلى هذا المجلس الذي يترأسه المسؤول التركي، ويشاركوا فيه لبحث استياء الدروز من متصرف المنطقة، وقد كان هذا واضحاً بشكل أو بآخر".
مع زعيم الشراكسة
بعد ذلك يناقش أوليفانت فوائد إشراك زعماء القبائل بالمجالس المحلية لإدارة المنطقة، لأن ذلك يعني أنهم ملتزمون بسلوك قويم ومنضبط إلى حد كبير. ويرى أن ممارستهم لوظيفة التحكيم في قضايا مثل النزاع الحاصل بين المتصرف والدروز، يدعم إحساسهم بالأهمية.
وبعد الخروج من المجلس يتجول أوليفانت في القنيطرة، التي لم يكن فيها سكان أصليون كما يقول. ثم يزور إسماعيل آغا زعيم الشراكسة، الذكي الودود، والذي أبدى وداً إضافياً عندما أخبره أوليفانت بأنه زار بلاده الأصلية في القوقاز من قبل، وتحديداً الوادي الذي نزح منه. ولم يخل حديث أوليفانت مع إسماعيل آغا من صعوبات بسبب عدم معرفته باللغة التركية. ولكن ذلك لم يمنعه من أن يكون انطباعاً إيجابياً عن زعيم الشراكسة الذي سجن ست سنوات لدى الروس، وكان يتحدث الروسية بطلاقة، إلى جانب لغته الأم وهي الشركسية، إضافة إلى التركية والقليل من العربية.
وقد لمس أوليفانت الأسى في حديث إسماعيل آغا الذي كان الألم يعتصر قلبه وهو يروي قصة اقتلاعه وترحيله عن وطنه الأم، والمصير الحزين الذي حل بأبناء قومه الذين لم يذوقوا طعم الراحة، إذ طردتهم القوات الروسية بالجملة من ديارهم في القوقاز ثم من دول أوروبا الخاضعة للعثمانيين، والآن من بلغاريا إلى سورية. ويمتدح أوليفانت صفات الشراكسة النبيلة، رغم أن التجارب العنيفة أثقلت كواهلهم فيما يتجاوز القدرة على التحمل.
مسرح القباني في دمشق
ويقدم أوليفانت وصفا نادرا لمسرح أبي خليل القباني في دمشق حيث يقول: "ومن الأشياء المبتدعة في دمشق منذ وصول مدحت باشا كحاكم عام لسورية قيام "المسرح العربي" على أسس شبه حضارية، حيث ذهبت ذات ليلة مع سعادة الباشا وفوجئت بالمظهر الحضاري للمسرح، فقد كان هناك قاطع تذاكر عند المدخل ومقاعد مرتبة بعناية ومليئة بالمشاهدين الذكور حصراً، وتم حجز الصف الأول من المقاعد للحاكم وحاشيته كما شاهدت فرقة موسيقية مؤلفة من عازف آلة وترية تشبه الغيتار (العود) وآلة القانون وعازف آلة تشبه كلارينيت محلية المواصفات (ناي) وعازف دف ومطرب، وكانت هذه الفرقة تحتل منصة في زاوية المسرح.
أما الستارة فقد زينت بكتابات ورموز عربية، وكانت ترتفع وتنخفض بشكل راقص غير منتظم.. كان الممثلون يغنون، أو بالأحرى ينشدون، ولم تتغير المناظر طوال المسرحية، وهي مسرحية عايدة التي سبق لجوزيبه فيردي تحويلها إلى أوبريت.
كان بطل المسرحية ممثلاً أدى دوره بقوة درامية، وقد ارتدى درعاً يشبه المعطف، وله قلنسوة رائعة الجمال يحدها من الأسفل ما يشبه خرطوماً أسود، وكانت في مطلع المشهد تغطي وجهه، وكان يسير على خشبة المسرح بخيلاء ثم يقوم بحركات دؤوبة لا يعتريها العيب من أي ناحية وتتناسب مع الأصوات الصادرة عنه، وقد كان صوته صافياً موسيقياً من دون نشاز.
أما ابنة الملك المصري التي كانت تحبه وابنة الملك الحبشي التي أسرها في الحرب ولكنه يقع أسيراً في حبها، فقد أدى دورهما ولدان ارتديا ألبسة الفتيات على مدار القصة وكان من الصعب أن تميز أنهما ليسا فتاتين، وقد أديا دورهما بمشاعر جياشة وذكاء واضح. لقد ارتديا أزهى ملابس العذارى بأزياء شرقية بحيث كانت إحداهما سوداء والثانية ابنة الملك إلا أن النساء اللواتي حضرن المسرحية كن يرتدين الألبسة شبه الأوروبية.
يعرف عن ملك مصر أنه كان أنيق الملبس يتبع في أزيائه المظهر الذي عرف به سارداناباولوس، وقد كان أداء الملك المشرقي متكامل الأركان، ليس هذا فحسب بل لا مناص من الاعتراف بأن الجميع أدوا أدوارهم بشكل أفضل من المتوقع، ولو كانت حرفية التمثيل غائبة في أغلب الأحيان، فقد كانوا يسردون الحوار سرداً صرفاً في بعض الأحيان وبانفعال في أحيان أخرى، نظراً لكوني اعتدت رؤية المسارح الاحترافية بحركتها الديناميكية فقد لاحظت بعض التكرار النمطي في حركة الممثلين على المسرح.
أما سائر المشاهدين فقد كانوا منسجمين مع الممثلين وتفاعلوا مع المواقف الكوميدية التي تخللت المسرحية. وفي فواصل المسرحية عزفت الفرقة تلك الألحان الشرقية التي اعتدنا كسياح أن نستمع إليها، والتي عادة ما تتردد في المقاهي والحدائق. أما الأداء الراقص فقد كان مؤلفاً من بعض الخطوات الصغيرة المنسقة والمكررة بشكل متعب، ولكنها كانت متزامنة أداها الصبية المتنكرين بزي فتيات. لقد كانت المسرحية بجلّها تجربة فنية أقرب للنجاح، وقد كان الأداء مبهجاً رغم رتابته".