يُعَدّ الكاتب المكسيكي الراحل أوكتافيو باث أحد أبرز أدباء أميركا اللاتينية، وإحدى العلامات الثقافية المضيئة في القرن العشرين. ينتمي إلى سلالة من الشعراء استطاعت أن تزاوج بين نتاجها الشعري ونتاجها الفكري. هذا النتاج المتنوّع تحتفل به أوروبا هذا العام، كما الدول الناطقة باللغة الإسبانية، في الذكرى المئوية الأولى لولادة صاحبه، من خلال لقاءات وندوات وقراءات ومعارض، وكذلك عن طريق إعادة طبع كتبه او إصدار كتب جديدة حوله، من أبرزها كتابٌ بعنوان "أوكتافيو باث في عصره"، للباحث المكسيكي كريستوفر دومنغز ميكايل، الذي صدر مؤخّراً، وفي آن واحد، باللغتين الإسبانية (منشورات "أغيلار") والفرنسية (دار "غاليمار")، وهو يشكّل مرجعًا أساسيًا حول حياة أوكتافيو ونتاجه.
في النصف الثاني من القرن العشرين، اكتسبَ الأدب الأميركي المكتوب باللغة الإسبانية خصوصيته وتمايزه مع عدد من الكتّاب الكبار من أمثال بورخيس وماركيز وأستورياس وفوينتس ويوسا، بالإضافة إلى باث بالطبع. أنتجَ هؤلاء أدبًا تجري في عروقه دماء كثيرة. وهو أدب يعي خصوصيته التاريخية والثقافية، ويقيم علاقات جديدة بين الواقع والمتخيّل إذ يولي الأحلام والأسطورة أهمية خاصة في قراءة الواقع، كما يلتفت إلى الطقوس والعادات والتقاليد، ويسعى إلى استرداد البعد الروحي العميق الذي يجد جذوره في الموروث الهندي، وذلك كلّه في موازاة استيعابه الثقافة الأوروبية الجديدة وانفتاحه على مختلف التيارات والتجارب العالمية المعاصرة.
في المراحل السابقة، كان هذا الأدب أسيرَ الأدب الإسباني ويشكّل امتدادًا له، مثلما كان أدب أميركا الشمالية يشكّل امتدادًا للأدب البريطاني. لكن، ورغم ذلك، ظلّ أوكتافيو باث يعدّ الأدب الأميركي اللاتيني، بفرعَيه الكبيرَين البرتغالي والإسباني، جزءًا لا يتجزّأ من الأدب الغربي: "نحن ننتمي إلى الغرب تاريخيًا ولغويًا وثقافيًا، وليس إلى هذا العالم الثالث الغامض. نحن قطب من أقطاب الغرب، لكنه قطب منحرف، فقير ومُخالف".
صحيح أنّ القارة الجديدة بدأت تنفصل ثقافيًا عن الغرب بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكنّها كانت بعيدة من الثورة العلمية التي حقّقها، فلم تعرف لا الفلسفة النقدية ولا "الأنسيكلوبيديا" الفرنسية. إذ كان ثمة تَواصل في الغرب بين الفكر الفلسفي والعلمي من جهة، والنقد الأدبي من جهة ثانية. في العصر الحديث كان الشعراء أنفسهم نقّادًا، من بودلير إلى إليوت. وفي حالات كثيرة، يستحيل الفصل بين التفكير والإبداع، بين الشعرية والشعر، لذلك آمنَ باث بأنّ الأدب الحديث لا يستقيم من دون نقد حديث، وانخرط كلّيًا في هذا المشروع. وكانت له نظرة نقدية نافذة لأحداث القرن الماضي، كما شهدَ هو نفسه أحداثًا طبعته: الحرب الأهلية الإسبانية، ونهاية الحرب العالمية الثانية، وولادة الأمم المتحدة وسقوط جدار برلين. وواكبَ ثورة الطلاّب عام 1968.
في المراحل السابقة، كان هذا الأدب أسيرَ الأدب الإسباني ويشكّل امتدادًا له، مثلما كان أدب أميركا الشمالية يشكّل امتدادًا للأدب البريطاني. لكن، ورغم ذلك، ظلّ أوكتافيو باث يعدّ الأدب الأميركي اللاتيني، بفرعَيه الكبيرَين البرتغالي والإسباني، جزءًا لا يتجزّأ من الأدب الغربي: "نحن ننتمي إلى الغرب تاريخيًا ولغويًا وثقافيًا، وليس إلى هذا العالم الثالث الغامض. نحن قطب من أقطاب الغرب، لكنه قطب منحرف، فقير ومُخالف".
صحيح أنّ القارة الجديدة بدأت تنفصل ثقافيًا عن الغرب بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكنّها كانت بعيدة من الثورة العلمية التي حقّقها، فلم تعرف لا الفلسفة النقدية ولا "الأنسيكلوبيديا" الفرنسية. إذ كان ثمة تَواصل في الغرب بين الفكر الفلسفي والعلمي من جهة، والنقد الأدبي من جهة ثانية. في العصر الحديث كان الشعراء أنفسهم نقّادًا، من بودلير إلى إليوت. وفي حالات كثيرة، يستحيل الفصل بين التفكير والإبداع، بين الشعرية والشعر، لذلك آمنَ باث بأنّ الأدب الحديث لا يستقيم من دون نقد حديث، وانخرط كلّيًا في هذا المشروع. وكانت له نظرة نقدية نافذة لأحداث القرن الماضي، كما شهدَ هو نفسه أحداثًا طبعته: الحرب الأهلية الإسبانية، ونهاية الحرب العالمية الثانية، وولادة الأمم المتحدة وسقوط جدار برلين. وواكبَ ثورة الطلاّب عام 1968.
كانت بلاده المكسيك - في تاريخها القديم، قبل مجيء كريستوف كولومبوس، كما في تاريخها الحديث - من الموضوعات الأساس في نتاجه، شعرًا ونثرًا. وقد وصفته الأكاديمية السويدية يوم منحته "جائزة نوبل للآداب" عام 1990، بأنه "نتاج حيّ، منفتح على آفاق واسعة، ويتّسم بعمقه الفكري وبحسّه الإنساني العميق".
ساهم باث في تأسيس عدد من المجلاّت الثقافية الطليعية في بلاده، قبل أن ينتقل إلى العمل في السلك الدبلوماسي، وتمّ تعيينه في باريس حيث أصبح صديقًا لعرّاب الحركة السوريالية أندريه بروتون، وشاركَ في لقاءاتها في مقهى "سيرانو" في ساحة "بلانش". هناك تعرّفَ إلى بنجامين بيريه وماكس إرنست وهنري ميشو وجوليان غراك والشاعر اللبناني باللغة الفرنسية جورج شحادة. ولقد ورد اسم هذا الأخير في نصٍ كتبه باث عام 1991 تحدّث فيه عن تلك اللقاءات التي وصفها بأنها كانت "احتفالات طقوسية فعليّة"، يأتي إليها "شحادة ومعه دائماً باقة من الأمثال اقتطعها للتَّوّ من إحدى أشجار الفردوس". وكان جورج شحادة أيضًا في عداد الشعراء الذين نقلهم باث إلى اللغة الإسبانيّة، إلى جانب كلّ من إيلوار، أبولينير، ميشو وشار.
ترك باث مجموعات شعرية عديدة أبرزها "حجر الشمس"، وكذلك كتبًا ودراسات كثيرة. في كتابه "الشعلة المزدوجة"، وكان حينها في الثمانين من عمره، يتحدث عن الحبّ وعن السرّ الكامن وراء اجتذاب شخص إلى شخص آخر، أما في "القوس والقيثارة" فيؤرّخ للشعر ويلاحظ أنّه "انفتاح الوجود على الواقع الحقيقي". في "متاهة العزلة" يتطرّق الشاعر إلى أفكار وموضوعات كثيرة منها النزعة الليبيرالية، فيؤكّد أنها نقدٌ للنظام القديم ومشروع عقد اجتماعي جديد. وهي تستبدل فكرة الماوراء بفكرة إيجاد مستقبل على هذه الأرض، لكنها تتجاهل نصف الإنسان، أي النصف الذي تُعَبّر عنه الأسطورة والحلم".
وقف باث إلى جانب الجمهوريين في الحرب الإسبانيّة، وكان من أوائل المثقفين الأميركيين اللاتينيين الذين قاطعوا الستالينية وحذّروا من أخطار حكم الاستبداد. وحين كان سفيرًا لبلاده في الهند عام 1968، قدّم استقالته احتجاجًا على سياسة الحكومة المكسيكية التي قمعت التحرّكات الطلاّبية وقتلت زهاء ثلاثمئة طالب. انتقدَ بابلو نيرودا "أقرب الأعداء إلى قلبه" ولوي أراغون ورافاييل ألبرتي، وهؤلاء كانوا من الكتّاب الذين حملوا راية ستالين وأشاحوا النظر عن جرائمه ومعتقلاته الرهيبة. كما انتقد مواقف عزرا باوند المؤيّدة لموسوليني.
باث هو أحد الذين يستعيد معهم الشعر قبَسًا من وهجه العميق، ومن رسالته الجوهرية. من كلماته الأخيرة قبل وفاته في التاسع عشر من نيسان/أبريل 1998: "يكاد وَعيُنا يستغرق البرهة التي تستغرقها رفّةُ جفن".