... وتتكرّر تلك الوجوه. يتكرّر أنين عيونها. تذرف بضع عَبَرات - قد تكون عبرات كثيرة - أو تبدو ناضبة. ويتكرّر كرب شفاهها. تنطق ببضعة تأوّهات - قد تكون تأوّهات كثيرة - أو تخنقها.
وتتكرّر تلك الوجوه في أكثر من بقعة من المعمورة.. معمورتنا. لعلّ آخرها، حتى لحظة كتابة هذه الأسطر، في المنيا التي يتغنّى بها أهل البلاد كعروس للصعيد. هناك، قبل أيّام، كانت وجوه هؤلاء الرجال والنسوة مكلومة لا تحسّ بلهيب الشمس اللاسعة. حُرْقتها كانت هائلة. هناك، قبل أيّام، كانت وجوه هؤلاء الرجال والنسوة مكلومة لا تتفاعل مع الخطابات التي أُلقِيَت خلال تشييع أحبّاء اغتالهم إرهاب ما. مصابهم كان جللاً. تلك الوجوه لم تختلف عن أخرى سبق وفُجِعَت بمصرع غالين في بقاع أخرى، وهي بالتأكيد لن تختلف عن أخرى سوف تتذوّق مرّ فقدٍ جائرٍ واقعٍ لا محالة.
في هذا العالم، عالمنا الذي نعجز عن إيجاد صفة مناسبة لنعته، هُشِّمت تلك التي تُسمّى "إنسانيّة"، ومعها القيم - كلّ القيم - التي لا نترك مناسبة إلّا ونتبجّح بتبنّيها لا بل باعتناقها. والقيم وحدة لا تتجزأ.
في لحظة قراءة هذه الأسطر، مجزرة جديدة تُرتكَب ربّما في بقعة ما، ليتلاشى معها بعضٌ ممّا تبقّى من إنسانيّة ندّعيها. في هذه اللحظة بالذات، تُنظَّم في بقاع مختلفة من المعمورة ذاتها، حملات تدعو إلى مكافحة التدخين. فالتدخين يقتل. هذا ما أجمع عليه علماء وأهل اختصاص تختلف جنسيّاتهم، فكانت مناسبة عالميّة تحثّ على الإقلاع عنه يُحتفَل بها في مثل هذا اليوم، الواحد والثلاثين من شهر مايو/ أيّار من كلّ عام.
"التبغ - خطر يهدّد التنمية"، شعار أطلقته منظّمة الصحّة العالميّة في نسخة هذا العام من اليوم العالميّ للامتناع عن التدخين. والتنمية، من دون الغوص في تفاصيلها، تعني كلّ ما من شأنه مساعدة الشعوب على بناء حياة أفضل. "حياة أفضل". تعبير يتكرّر في أدبيّات المنظّمات التي تنشط وهدفها "الإنسان". ويتكرّر كذلك في خطابات كلّ من يعمل أو يدّعي العمل من أجل "الإنسان" مهما كان انتماؤه. ويتكرّر في أحلام لنا - نحاول إقناع أنفسنا بأنّها ليست أوهاماً - وفي نقاشات نخوضها لعلّنا نفلح في إعلاء شأن "الإنسان" فينا.
التدخين يقتل. لسنا في وارد تناول الحيثيّات التي تجعل التدخين يفتك ببعض مستهلكيه وبعض مستنشقيه، في حين يُهمِل آخرين من مدمنيه. الموضوع علميّ يطول. لكنّ أسئلة تلحّ هنا: ماذا لو كان هؤلاء الذين سقطوا في المنيا من المدخّنين أو من مستنشقي التبغ؟ ماذا لو أنّهم لم يستقلّوا تلك الحافلات الثلاث في ذلك اليوم؟ هل كان التدخين ليبطش بهم أو كانت لتُتاح لهم حياة أفضل؟