الأماكن الصغيرة التي اعتدنا الجلوس فيها أو الذهاب إليها قد تشكل أوطاناً محتملة لنا. منها أيضاً تلك التي اعتدنا النظر إليها برهبة وتمنينا طويلاً الدخول إليها فردعنا عن ذلك كثير من العوامل. وليس ذلك مرتبطاً بالضرورة بـ"من سكن الديار" وحبّه هو بدلاً من الديار نفسها، كما يقول قيس بن الملوّح لليلاه، بل على العكس، قد تكون الديار نفسها بجدرانها وبلاطها وأشجارها وتربتها وسمائها وهوائها ورائحتها وأصواتها وتجهيزاتها المختلفة وتفاصيلها الصغيرة جداً هي مصدر شغفنا، ولو كانت فارغة من حبيب أو صديق أو جليس أو نديم.
يخلط كثيرون بين الدولة والوطن. من دون الدخول في تعريف الدولة في علم الاجتماع السياسي والفرق بينها وبين السلطة، الأمر ببساطة أنّ الدولة هي الهيكل الإداري الذي يغلف الوطن، وقد يسيء إليه في كثير من الأحيان بحسب الأنظمة التي تحكمه وما فيها من فساد مختلف المستويات. لا يمكن للوطن أن يتحرر من تلك الدولة على المستوى السياسي. لكن، على المستوى الاجتماعي المرتبط أكثر بالهوية، فإنّ انتماء الشخص ليس للدولة، بل للوطن الذي تحيط به هذه الدولة. هذا الانتماء الذي يجعله مواطناً قبل أن تلحق بالكلمة واجبات وحقوق ومشاركة سياسية أكانت إيجابية أم سلبية. هو ذلك الوطن بكلّ ما فيه من عناصر.
ذلك الوطن نفسه ينقسم إلى أوطان متناهية الصغر أحياناً بحسب نظرتنا إليها وشعورنا تجاهها. نحن مواطنون لهذا الوطن الكبير، لكنّنا أكثر التصاقاً بما تمليه علينا هويتنا الإنسانية البدائية قبل أن نكون مواطنين. ربما تلبّي الأوطان الصغرى تلك الرغبة لدينا في الانعتاق من وطن أكبر في اتجاهنا إليها بالذات. تكمن المفارقة هنا أنّنا نتجه في هذا الانعتاق، الذي يعني التحرر أو المسار باتجاه الحرية، من الأكبر إلى الأصغر، حتى يبدو ذلك غير منطقي، بل يبدو اتجاهاً إلى الانعزال عوضاً عن التحرر. لكنّ معادلة الأكبر والأصغر تلك غير دقيقة غالباً في القضايا الاجتماعية خصوصاً تلك التي تتعلق بالهوية والانتماء. ويعلّل البعض ذلك أنّ الانسجام مع الذات هو الشرط الأساسي للانسجام مع المجموعة. وقد يصل بعضهم أبعد من ذلك في أنّ حبّ الذات شرط أساسي لحبّ الآخرين.
في كلّ الأحوال، لدى كلّ منّا مجموعة من هذه الأماكن. بعضها نزوره يومياً، وبعضها الآخر نحلم بزيارته، وبعض ثالث نشعر بحنين متواصل إليه. لعلّ تلك الأماكن أوطان حقيقية لنا في وطننا. ونحن وطنيون تجاهها، حتى حين لا نعترف بوطنيتنا تجاه وطننا الكبير. حتى حين نعلن صبحاً ومساء أننا نريد أن ننعتق منه... أنّنا نريد أن نهاجر إلى غير رجعة.
اقــرأ أيضاً
يخلط كثيرون بين الدولة والوطن. من دون الدخول في تعريف الدولة في علم الاجتماع السياسي والفرق بينها وبين السلطة، الأمر ببساطة أنّ الدولة هي الهيكل الإداري الذي يغلف الوطن، وقد يسيء إليه في كثير من الأحيان بحسب الأنظمة التي تحكمه وما فيها من فساد مختلف المستويات. لا يمكن للوطن أن يتحرر من تلك الدولة على المستوى السياسي. لكن، على المستوى الاجتماعي المرتبط أكثر بالهوية، فإنّ انتماء الشخص ليس للدولة، بل للوطن الذي تحيط به هذه الدولة. هذا الانتماء الذي يجعله مواطناً قبل أن تلحق بالكلمة واجبات وحقوق ومشاركة سياسية أكانت إيجابية أم سلبية. هو ذلك الوطن بكلّ ما فيه من عناصر.
ذلك الوطن نفسه ينقسم إلى أوطان متناهية الصغر أحياناً بحسب نظرتنا إليها وشعورنا تجاهها. نحن مواطنون لهذا الوطن الكبير، لكنّنا أكثر التصاقاً بما تمليه علينا هويتنا الإنسانية البدائية قبل أن نكون مواطنين. ربما تلبّي الأوطان الصغرى تلك الرغبة لدينا في الانعتاق من وطن أكبر في اتجاهنا إليها بالذات. تكمن المفارقة هنا أنّنا نتجه في هذا الانعتاق، الذي يعني التحرر أو المسار باتجاه الحرية، من الأكبر إلى الأصغر، حتى يبدو ذلك غير منطقي، بل يبدو اتجاهاً إلى الانعزال عوضاً عن التحرر. لكنّ معادلة الأكبر والأصغر تلك غير دقيقة غالباً في القضايا الاجتماعية خصوصاً تلك التي تتعلق بالهوية والانتماء. ويعلّل البعض ذلك أنّ الانسجام مع الذات هو الشرط الأساسي للانسجام مع المجموعة. وقد يصل بعضهم أبعد من ذلك في أنّ حبّ الذات شرط أساسي لحبّ الآخرين.
في كلّ الأحوال، لدى كلّ منّا مجموعة من هذه الأماكن. بعضها نزوره يومياً، وبعضها الآخر نحلم بزيارته، وبعض ثالث نشعر بحنين متواصل إليه. لعلّ تلك الأماكن أوطان حقيقية لنا في وطننا. ونحن وطنيون تجاهها، حتى حين لا نعترف بوطنيتنا تجاه وطننا الكبير. حتى حين نعلن صبحاً ومساء أننا نريد أن ننعتق منه... أنّنا نريد أن نهاجر إلى غير رجعة.