أوسفالد شبينغلر.. مع فاوست إلى الهاوية؟

29 مايو 2020
شبينغلر عام 1930
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، التاسع والعشرون من أيار/ مايو، ذكرى ميلاد الفيلسوف الألماني أوسفالد شبينغلر (1880- 1936).


قد تبدو الأحداث التي نعيشها منذ أشهر مناسبة لاستعادة المفكّر الألماني أوسفالد شبينغلر (1880 - 1936) الذي تحلّ اليوم ذكرى ميلاده، وقد كانت مدوّنته أشبه بمرثية كبرى للثقافة الغربية وللرأسمالية والفلسفة والفن، مما نسمع صداه اليوم. وفي الحقيقة، فإن العودة إلى شبينغلر متواترة منذ نشره لكتابه الرئيس "تدهور الحضارة "الغربية" (1918)، وقد كان صدوره في نهايات الحرب العالمية الأولى سبباً في سطوع نجم مؤلفه رغم أنه إصداره الأول، ثم استعيد مع الانهيار الاقتصادي أواخر العشرينيات، فالحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى موجة صعود الشعبويات في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

تواتر العودة إلى شبينغلر تفسّرها الموسوعية اللافتة التي اتسم بها كتاب "تدهور الحضارة الغربية"، فقد جعل الحضارة بكل مكوّناتها موضوعاً له، فمرة يمسكها من خلال الفلسفة وأخرى من خلال الأدب أو الاقتصاد السياسي أو غير ذلك، كما يرفق هذه النظرة الشاملة بتفكير جذري حول مصائر كلّ شيء يتناوله. وهنا، ربما استفاد الكتاب - جماهيرياً - من عدم تلطّف مؤلفه في قول الحقائق المأساوية للقارئ في خلطة جمعت بين الروح النيتشوية ومناخات الكتب السماوية.

غير أن شهرة هذا الكتاب قد جعلت شبينغلر يُختصر فيه، ليبدو مجرّد متكهّن بالنهايات. غير أن قراءة مجمل أعمال الفيلسوف الألماني قد تُغيّر الكثير من الصورة المكرّسة عنه، مثلاً يلفت مؤرّخ الأفكار الفرنسي ميرليو جلبير في كتابه "بداية النهاية؟" (2019) إلى أن قراءة مجمل أعمال شبينغلر كنص واحد يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن الحديث عن نهاية الحضارة الغربية كان بالنسبة له إمكانية لبدء حضارة جديدة، حضارةٍ ألمانية تحديداً، بُروسية الجوهر.

في 1920، أصدر شبينغلر كتاب "البروسية والاشتراكية" وفيه دعوة إلى إقامة مصالحة بين النزعة المحافظة والاشتراكية، وفي 1924 أصدر "إعادة إحياء الإمبراطورية الألمانية" وفيه اعتبر أن الديكتاتورية أقلّ سوءاً من الديمقراطية، وفي ذلك كان جزءاً من تيار فكريّ-سياسي ظهر في عشرينيات القرن الماضي في ألمانيا وعُرف باسم "الثورة المحافظة"، وقد وقف ضدّ النظام السياسي القائم وقتها (جمهورية فايمار).

تبعاً لهذا الموقف اعتُبر شبينغلر لاحقاً كأحد دعاة النازية، وهنا جرى ربطه بها بشكل اعتباطي على أساس المناهضة المشتركة للديمقراطية، مع إغفال أن صاحب كتاب "الإنسان والتقنية" (1931، سنوات قليلة قبل رحيله وقبل صعود هتلر للحكم) قد امتنع عن تولّي مناصب جامعية اقترحها عليه النازيون، حتى أنه جرت الإشارة إلى فرضية الاغتيال إذ كان غوبلز يخشى أن ينتقد النازيةَ أحد آبائها الفكريين.

وصل شبينغلر إلى الثقافة العربية بشكل مبكّر نسبياً، فقد خصّص له عبد الرحمن بدوي كتاباً ضمن سلسلة "خلاصة الفكر الأوروبي"، ثم صدرت في 1964 ترجمة أحمد الشيباني لـ"تدهور الحضارة الغربية" على ضخامة هذا العمل (أكثر من ألف صفحة)، في وقت لم تكن أعمال أبرز الفلاسفة الألمان من الصف الأمامي مترجمة، لا من الألمانية ولا حتى عن لغة وسيطة.

ربما لفت انتباه المثقفين العرب في منتصف القرن العشرين تلك النبرة النقدية-الرثائية للغرب، فوقعت موقعاً حسناً ضمن سياق "تصفية الاستعمار"، وقد اختُزل شبينغلر بالتالي في مقولته "التنبّؤية" بزوال الحضارة الغربية ما أوحى لكثيرين أن الحضارة التي يمكن أن تخلفها هي البعث الجديد للحضارة العربية، وكان بدوي قد ختم كتابه عن شبينغلر بهذا القول: "نداءٌ غامض يصّاعد من أعماق الوجود الحي أذاناً بميلاد حضارة جديدة، فهل سمعت يا مصر هذا النداء؟". كما لا يخفى أن اهتمام المثقفين العرب بكتاب شبينغلر قد يعود في أحد وجوهه إلى تعرّضه بالتحليل للحضارة العربية، ناهيك عن إشارات البعض إلى أن شيئاً من فكر الفيلسوف الألماني نجد ملامحه لدى ابن خلدون على مسافة قرون خمسة.

لكن كيف كان شبينغلر يرى نهاية الغرب؟ يُسند المفكر الألماني رؤيته إلى منهجية أوردها غوته في تاريخه الطبيعي ناقلاً إياها إلى فضاء التاريخ البشري. يرى غوته أن كل ظاهرة يُمكن إعادتها إلى أصل وحيد تتفرّع منه كل الظواهر، وهو ما يعبّر عنه بقوله "كل فانٍ رمز". حين طبّق شبينغلر ذلك على التاريخ البشري وجد أن الحوادث إنما هي مجرّد ملامح لروح أملتها، وأن الحضارة باعتبارها مُركباً من الفكر والفن والعلم والتنظيم السياسي والاقتصادي والتقنية إنما هي اللغة التي تعبّر بها الروح عمّا تشعر.

انطلاقاً من ذلك، يرى شبينغلر أن الطبيعة يمكننا دراستها كعلماء، أما التاريخ فيحتاج إلى أن نتطرّق إليه كشعراء، لأن الشعر والتاريخ يشتركان في محاولة فهم الكائن البشري وسبر عوالمه الخفية التي لا تمثّل الأحداث إلا تمظهراً خارجياً لها.

بشكل عام، يقسّم شبينغلر أطوار حضارة ما إلى أربعة فصول تبدأ بـ"الربيع"، وهو زمن يكون فيه الناس قريبين من الأرض (عصر هيمنة الريف)، وينتجون الملاحم والقيم العميقة (الأخلاق والدين)، وهي فترة تقابل - للمفارقة - العصور الوسطى في الحضارة الغربية، فيما يقابل الانتقال إلى "الصيف" - وهو مرحلة اكتمال بزوغ حضارة - ما يُعرف تاريخياً بعصر النهضة الأوروبية وفيه يتعادل الريف مع المدينة، كما تتعادل النظرة السحرية والعلمية للكون، ويتجسّد ذلك في تمأسس الدولة، وهي مرحلة تنتهي في نهاية القرن الثامن عشر، لتدخل الحضارة في فترة من الإنهاك كان تجليها ظهور الرومانسية.

أما "الخريف"، ففيه تنتصر المدينة على الريف بشكل واضح وكذلك العلم على النظرة الغيبية للعالم، وهي مرحلة رأى شبينغلر أن الحضارة الغربية تعيشها على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين، قبل الدخول في "الشتاء" وهو عصر التشابه، وفيه تزدهر التقنية ويضمر العلم، كما أن من تجلياته ضمور الرغبة في الإنجاب، وتتحوّل الدول إلى تجسيدات لأشخاص ومن ثم الدخول في حروب بلا معنى تنهك الحضارة وتقتلها من الداخل أو تسلّمها بسهولة إلى حضارة غازية.

من بين الملاحظات التي يسوقها شبينغلر تشبيهه للحضارة الغربية بمصير فاوست، إذ يرى أنها أقامت عقداً سلّمت فيه روحها مقابل المعرفة والسيطرة، وأن العقد ينتهي بنضوب طاقة الغرب/فاوست، وبدء اكتشاف أن كل شيء لم يكن سوى شبكة معقّدة من الأوهام.

لو أننا سلمنا بمقولات شبينغلر، أي مصير لبقية الشعوب والحضارات التي ربطها الغرب بمساراته وخياراته منذ القرن التاسع عشر عبر الاستعمار، ثم مع العولمة؟ ماذا لو كان شبينغلر على حق؟ هل على البشرية كلها أن تسير مع الغرب إلى الهاوية؟

المساهمون