أورهان باموق يتبع الرائحة

20 يناير 2015
+ الخط -
يختار الروائي التركي أورهان باموق في روايته الأخيرة "ثمة شيء في عقلي" (دار يابي كريدي) الصادرة منذ أيام فقط، شخصية مولود الريفية البسيطة، الابن الذكر الوحيد لأبويه مصطفى وعطية. لم يخرج مولود من قريته - إحدى قرى قونية - حتّى الثانية عشرة من عمره. وبما أن تاريخ ولادته عام 1957، فسيعاصر أهمّ الأحداث التي شهدتها تركيا الحديثة من صراعات سياسية وانقلابات عسكرية خلال نصف القرن الأخير. 
بقدر ما يعدّ باموق كاتبًا تركيًا عالميًا، فإن صفة الإسطنبولي هي الأطغى على أدبه، إذ تشكّل إسطنبول دائماً مكاناً بطلاً في رواياته. ولئن كانت أحداث رواياته السابقة تدور في إسطنبول الراقية الأرستقراطية، فقد اختار هذه المرّة أحياء القاع، الأحياء المتطرفة إضافة إلى حي "طرلا باشِ" الذي ينتمي إلى القاع رغم كونه وسط المدينة ويؤدّي إلى أهم ساحاتها؛ ساحة تقسيم. 
يعرض الروائي صعوبة الحياة في أواسط الستينيات، واضطرار والد مولود للسفر إلى إسطنبول ليعمل بائع لبن متجولاً. خاب أمل مولود بالذهاب إليها إذ قرّر والده الذهاب وحيداً. وازداد شعور البطل بالوحدة بعد ذهاب ابني عمّه إليها، فالتحق بوالده بعد عام تقريباً تاركاً نساء أسرته في القرية. في إسطنبول سيدرس ويساعد والده، ويعيشان في غرفة واحدة في أحد الأحياء المتطرفة الفقيرة. وفي المدرسة الثانوية يتعرّف إلى السياسة وإلى صديقه العلوي فرحات. وقتذاك وصل الصراع بين اليسار واليمين في تركيا إلى الذروة، وهو ما انعكس بين أبناء الحي الذي يسكن فيه واليساريين والعلويين. يقع مولود في الوسط. ابنا عمّه في جهة، وصديقه فرحات في الجهة الأخرى. وفي النهاية يبيع العلويون والأكراد أرضهم وينتقلون إلى حي من الأحياء المتطرّفة. 
من خلال هذه الأحداث ينقل إلينا باموق الصراع الدموي الذي شهدته تركيا في السبعينيات، وتجلّى بقوّة أكبر في تلك الأحياء الفقيرة. 
في عرس ابن العمّ تقع عين مولود على شقيقة فتاة جميلة، فيقع في حبّها. يسأل ابن عمه عن اسمها، فيقول: "رائحة"، ويبدأ مولود بكتابة رسائل الغرام لمن يظنّها رائحة، وتبدأ قصة حبّ شبه أسطورية. بعد ذاك يذهب إلى الجندية، ويحدث انقلاب عسكري، وترتفع حرارة البلد، ومعها ترتفع حرارة الغرام في رسائل مولود لرائحة. بعد عودته من الجندية يقرّر خطف "رائحة"، لكنه يكتشف أنها ليست هي، وأن ابن عمّه خدعه. رغم ذاك يتزوجها ويعيشان في حي طرلا باشِ الشعبي. وإذ يخسر عمله في بيع اللبن، يبدأ مولود ببيع المثلجات، وفي المساء يبيع "شراب الحبوب". 
اختار باموق مهنةً تركيةً فريدة؛ "بيع شراب الحبوب الساخن" ويسمّى هذا الشراب في التركية "بوظة"، وقد بقي نداء "بوظة" يتردّد في أزقة المدن التركية في ليالي الشتاء الباردة ليدفئ الناس حتّى وقت قريب. 
ويقول الروائي إنه قرّر اختيار مهنة مولود منذ البداية، لأنها تعطيه مادّة روائية خصبة، فهو يجوب الأزقة والشوارع، ما يمنحه إمكانية إبراز بطولة المكان، كما يدخل إلى الأبنية ومطابخ البيوت أحياناً ليصبّ لهم الشراب، وتدور بعض الأحاديث مع الناس من مختلف المستويات ليفتح الآفاق أمام مزيد من التنوع في الشخصيات. وإذ يتنقّل البطل في مهن كثيرة، إلا أنه يستمر في بيع شراب الحبوب، لأنه يحبّ تلك الأزقة والتجوال فيها، ثم يخطر بباله أن يكتب على جدار ما أراد قوله للمدينة: "رائحة هي الأحبّ إلي في هذا العالم". 


المساهمون