أوراق "داعش" في سرت الليبية: بنية تحتية لمعقل مؤقّت

09 يونيو 2016
قوات تابعة لحكومة الوفاق في سرت (محمود تركية/فرانس برس)
+ الخط -
منذ أكثر من عام، اختار تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) مدينة سرت، وسط ليبيا، معقلاً رئيسياً لوجوده في البلاد، وخصوصاً بعد عجز الكتيبة 166 المكلفة من "المؤتمر الوطني" (برلمان طرابلس) منذ نهاية شهر يناير/كانون الثاني 2015 عن استعادة السيطرة على مقرات حكومية سيطر عليها "داعش" داخل سرت.

وبعيد إعلان الكتيبة انسحابها من سرت نهاية شهر مارس/آذار من العام الماضي، بسبب ما وصفته بـ"تغاضي السلطات عن دعمها وتوفير الإمكانيات العسكرية لها"، أحكم التنظيم سيطرته على المدينة وعزز من وجوده فيها لتصبح معقله الأول في البلاد.

ويبدو أن التنظيم أدرك مبكراً توفّر سرت على إمكانيات تؤهلها لأن تكون مركزاً لتوسيع رقعة سيطرته، فبالإضافة إلى توسطها ليبيا جغرافياً، تربط المدينة أيضاً شبكة طرقات معقّدة، منها الرئيسية المعبّدة وأغلبها صحراوي، ويمتد إلى أعماق الصحراء الليبية، مثل طرقات وادي جارف ووادي ذكير وفوار الناموس، جنوب البلاد.

وقد ساعد النظام السابق على توسيع الطرقات، من خلال شقّ ما عُرف بطريق "النهر الصناعي" منتصف التسعينيات، وهي طريق ربطت أغلب المناطق الواقعة في دواخل الساحل، لتصل إلى عمق الصحراء. كما يُمكن دخول سرت والخروج منها أيضاً عبر الطرق الرعوية وبين المزارع.

ومثّل شاطئها الممتد لمسافات كبيرة، عاملاً إضافياً آخر في أهمية سرت، فهناك الخلجان المتعرجة المتعددة، التي توفر حماية طبيعية من المراقبة جواً، ويصعب الوصول إليها على غير أهلها، بسبب كثافة الكثبان الرملية براً. كما يتوسطها ميناء بحري محمي بضحالة عمقه، مما يجعل من المستحيل استخدامه لرسو أو استقبال قطع بحرية عسكرية ضخمة.
 عسكرياً، حصّن العقيد المخلوع، معمّر القذافي، منذ ثمانينيات القرن الماضي، مسقط رأسه سرت، بمجموعة من القواعد العسكرية المجهّزة، أبرزها قاعدة القرضابية في منطقة بوهادي، جنوب المدينة، كالقاعدة الأكبر وسط البلاد، التي تشرف على صحراء واسعة وتتوفر على مطار مدني ومهابط لسلاح الجو وأكثر من عشرة مبانٍ اسُتخدمت لتخزين السلاح أو كورشات للصيانة. 

وفي شكل الطوق الأمني، نشر النظام السابق مقرات عسكرية أخرى جنوب وشرق وغرب المدينة، منها "كتيبة الساعدي" شرقاً، وقاعدة "العتعت" غرباً. وبحسب مصادر أهلية فإن التنظيم، إلى جانب استفادته من هذه القواعد، فقد استفاد أيضاً من مقرات داخل المدينة، استخدمها لاداراته وهي: الحسبة، والتعليم الإسلامي، والمحكمة الشرعية. وأهم هذه المقرات هي مبنى الأمن الداخلي، ومزرعة البحوث، وسط البلاد، ومجمّع "واغادوغو"، الذي يمتد على مساحة كيلومترين مربعّين. وتقول مصادر محلية إن "المجمّع الضخم، زوّده القذافي بدفاعات ضد أي قصف أو هجوم من خلال خرسانات مسلّحة، تولّت تنفيذها كبرى الشركات في العالم مقابل أموال طائلة."

وتفيد شهادات مدنيين، ناجين من المدينة، بوجود حاضنة قبلية مكّنت "داعش" من التواجد في سرت منذ البداية. وقد مكّنت قبائل "الهماملة"، التي تنحدر من قبيلة الفرجان، التي ينتمي إليها اللواء خليفة حفتر، فضلاً عن قبائل "ورفلة"، أحد أهم الأذرع الأمنية الاجتماعية للنظام السابق، "داعش" من التواجد في المدينة. كما خرج من هذه القبائل قيادات بارزة في صفوف التنظيم. من جهته، يؤّمن أفراد من قبيلة "القذاذفة" الدعم اللوجستي كالوقود والغذاء وغيره لـ"داعش".

كل هذه الإمكانيات والعوامل التي ساعدت التنظيم في تعزيز وجوده بالمدينة، ولم تكن قادرة على حفظ وجوده لوحدها، فأهالي المدينة عبّروا عن شكوكهم أكثر من مرة، إزاء ارتباطات التنظيم مع مجموعات مسلّحة في البلاد مستفيدة من وجوده.

ويشيرون إلى أن "مقاتلي داعش في المدينة من ذوي البشرة السمراء ليسوا كلهم أفارقة، بل الكثير منهم يتحدث لغات قبائل التبو، ذات العلاقة العسكرية بقوات حفتر في الجنوب، والتي تسيطر أيضاً على منطقة القطرون، وسط الصحراء، أكبر معاقل شبكات تهريب البشر، التي مكّنت داعش من الاستفادة منهم في جلب المرتزقة ليقاتلوا ضمن صفوفها". 

وعلى الرغم ممّا توفّر لـ"داعش" من ظروف في سرت لتعزيز وجوده، إلا أنه بدأ يتهاوى أخيراً وسط ضربات قوات الرئاسي، التي حاصرته من الشرق والغرب والجنوب. ويكشف بعض الأشخاص نقلاً عن أقاربهم في سرت، عن أن "التنظيم بدأ يفقد مصادر تمويله، فقد عرض على بعض العائلات قبول فدية مالية مقابل إطلاق أسر أبنائهم المحتجزين عنده، كما توقّف عن نشر الرعب بين الأهالي بواسطة تنفيذ القصاصات والحدود التي كان ينفذها في الساحة العامة".

وفي مؤشر لتراجع التأييد الاجتماعي للتنظيم، ينوّه هؤلاء إلى أن "الوجوه الليبية لدى داعش تتناقص، فحواجز التفتيش تتضمّن أجانب كما أن الأجانب يقدمون الدروس الشرعية، وبالكاد يتقنون اللغة العربية، علماً بأن ليبيين معروفين كانوا يقومون بها". ويضيفون بأن "بابا حسين الكرامي، أبرز زعامات داعش الليبية في سرت، والمنحدر من قبيلة الهماملة، اختفى ولم يعد يظهر منذ أكثر من أسبوع".

وعن قدرات التنظيم القتالية، ينقل الأشخاص عن أقاربهم قولهم إن "التنظيم يمتلك قيادات، ربما من بينهم ضباط سابقون، ولكن مقاتليهم أغلبهم من المرتزقة، الذين يقاتلون من أجل المال، والمستشفى الوحيد بالمدينة مكتظ بجرحاهم. أما عن أوضاع التنظيم الحالية، فلا يعرف عنها أحد شيء بسبب انعزال الأهالي المتبقين في المدينة في بيوتهم".

وعن الحياة في المدينة، يقولون إن "أقاربهم أكدوا بأن الحياة معدومة تماماً، فلا وجود لمحال تجارية وأغلب محطات الوقود مقفلة، إلا التي تزود آليات التنظيم. ويعيش الأهالي المتبقون في المدينة، والذين تجمّع أغلبهم في منازل بعيدة عن ميادين القتال، من سلع غذائية بسيطة قاموا بتخزينها قبيل اندلاع القتال".
المساهمون