تسعفني الذاكرة من ديوان الشاعر أحمد شوقي، وتتجلى أمام عيني ثلاث قصائد عن مدينة دمشق، أو جلّق الاسم القديم لها. وهذه هي:
سلامٌ من صبا بردى أرقُ/ ودمعٌ لا يكفكف يا دمشق
وقصيدة:
قم ناجِ جلّق واندب رسم من بانوا/ مضت على الرسم أحداثٌ وأزمانُ
والأخيرة:
آمنت بالله واستثنيت جنته/ دمشق روح وجناتٌ وريحان
وكأن الشاعر يلخص ما نشهده على رسمها، أو ما تبقى منها، أحداثاً وكوارث يندى لها الجبين، وتقشعر منها الأبدان. وهذه ضواحي دمشق تروّع في إنسانها وحجرها بالقتل والدمار والتشتيت والهلع المريع الذي تعكسه عيون أطفالها الدامعات، وشعورهم الملوية المتسخة بالدم والغبار، والمجبولة بالدموع.
ولقد أنجبت دمشق لنا علماء، وقادة، ومفكرين، وشيوخاً، ومنشدين، وموسيقيين، وفنانين، وأبطالاً وصناعيين، وتجاراً، وأنتجت حريراً، وسيوفاً، وتحفاً فنية، وقدمت لنا ما هو جميل، يستحق أن تعاش له الحياة.
هذه الدرّة ذات الشذى العطر المنبعث من ياسمينها، والمياه الحلوة الدافقة من أرضها، والتراب الذي يشهد على عراقتها، أين كانت، وكيف في غمضة عينٍ من الزمن، ثوان معدودات من الدهر، ابتليت دمشق، حيث خسفت، ونسفت، ودكت.
وما انطبق على دمشق، انتقل إلى سواها من مدنٍ، كانت درراً في تاج الزمان. فحلب الشهباء، ذات الأهل الجميلين الرائعين في أدبهم، وشعرهم، وذوقهم، وطعامهم، وحرفيتهم، وحلاوة نسبهم، تعرضوا للأذى نفسه، فتساوت الفيحاء مع الشهباء في الأسى والحسرة.
أين نواعير حماة التي ابتليت مرتين في أقل من أربعين عاماً. وتغيّر ساكنوها، فأصبح أهلها غرباء فيها؟ وحمص مسقط رأس خالد بن الوليد الذي نعى نفسه بالموت على الفراش، بعد حروبٍ خاضها ومعارك انتصر فيها. ولا أرى سيف الله المسلول، إلا باسماً من حسن حظه على ميتته، حين رأى كيف يُقتل أهل حمص.
ما هي هذه القدرة المدمرة للإنسان، حين يتوحش. وتنظر إلى صور المدن والقرى السورية، فترى دماراً يذكّرك بيوم الحشر الأكبر. ومن ذا الذي يستحق أن يحيا ويحكم في مقابل ذلك الدمار، كائناً من كان؟
أخذتني جلالة الموقف إلى أماكنَ، ما كنت أظن أنني قادر على الوصول إليها. ولكن، من عرف سورية، وطاف في أرجائها، وعرف أهلها، لا يملك إلا أن يبكي حرقة ونحيباً.
لما كنت طفلاً في مقتبل العمر الواعي، أخذني والدي مع إخوتي إلى دمشق، لنشهد معرض دمشق الدولي. ولما وصلت إلى دمشق، وطوّفت في أرجائها، وشهدت "باص الترام"، أو ما يسمى بـ "الترام"، وعين الفيجة، والربوة، وسوق الحميدية، والمسجد الأموي.
واستمعت إلى اللهجة السورية "لوين رايح؟"، "مين لحشها؟"، "إصبع البوبو يا خيار"، "حبل الشيخ يا براد"، كنت أضحك سعيداً من طقطقات بائع شراب السوس والبلح. كنا نرتاد مطعم "الأمراء" في سوق الحميدية، ونأكل "فتة المقادم". واللبن الرايب ذا الطبقة الغنية من "القشدة"، والفول، وحرّاق إصبعه، والباذنجان المغلي، والكباب الحلبي وغيرها... ما يزال طعمها في قلبي وعقلي، قبل لساني...
ولا أنسى اليوم الذي تسلمت فيه نسخة من كتاب "مذكرات الحلاق الدمشقي البديري"، وهو يصف، في مياوماته، ما جرى ذلك اليوم في الأسواق، وأحاديث الزبائن الذين يأتون للحلاقة والتزيّن. وهو لا يتورع عن وصف هذا بالورع، وذاك بادعاء الورع.
ويقدم لك البديري رأيه في حركة السوق والأسعار، ويكتب إن سعر الطحين ارتفع بسبب التأخر في وصول قوافل القمح. ويرى الناس وهم يحتجون على الوالي بسبب الغلاء. ومع أن هذه المذكرات كتبت في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، (1140-1160)، إلا أنها ما تزال قضاياها حاضرة حتى هذه اللحظة.
وتتذكّر سوق الحميدية، إذ تدخل إليه. ويأتيك الشباب، ليقنعوك بالدخول إلى محالهم التجارية، أو زيارة مشغلهم خلف السوق. وتريد أن تشتري شيئاً من دون أن يتمكّن التاجر من اقتناص الرغبة في عينيك، حين تقع على شيء تحبه. فمن تلك النظرة، تخسر جزءاً من قدرتك التساومية معه، لأنه الخبير المبصر.
أهل دمشق، كما أهل سورية كلهم، شعب مثالي في سلوكه الاقتصادي والاجتماعي، فهم أصحاب حضارةٍ لا يبالغون في الاستهلاك، ولا يخجلون من العمل، ولا يسرفون في طلب المهور، ولا يعقّدون الزواج، ويحرصون على صلة الرحم، ويحبون صهرهم، مثل أولادهم. ولا يبادرون بالشجار قبل الحوار، ولا يبخسون الناس أشياءهم.
إنهم عمليون حتى النخاع، "وأبناء عيشة" كما يقول أهلنا في مصر الكنانة. وهم "مرجئون" مع سياسييهم، ويتحملون أخطاءهم وتجاوزاتهم، حتى لا تكون فتنة، لكنهم أشداء إذا طفح الكيل، ويتخلون عن مبدأ "يصطفلوا"، إذا مسّت كراماتهم.
كان بالإمكان أن تتخطى سورية ما جرى فيها من سفك دماءٍ وقتل وتهديم وتشريد ولجوءٍ، لو أن المسؤولين فيها عضّوا على نواجذهم، وأجّلوا استخدام العصا الغليظة.
سورية كانت بلداً يتسع لكل الاختلافات بين أهلها في الرأي، والعقيدة، والمنهج، والأصل، والحرفة، فهم يحبون العمل، ولا يتوقفون عند نوعه. وهم يحبون الله، ولا يجافون الآخر، لأنه يحب الله بطريقةٍ تختلف عنهم، ولا يضحكون من أحدٍ، بسبب اختلاف لهجته عنهم.
اختزل أهل دمشق، في كلامهم اليومي، كثيراً من الأحرف العربية، مثل الظاء، والثاء، والذال، والحاء، والهاء... واستمع له وهو يقول الرقم أحد عشر بلهجته "إيداش".. لكنهم أكثر من حافظ على اللغة، وبرع فيها، كتابة، وترجمة، ونصوصاً، وفناً منقوشاً، وتجويداً، وأداءً غنائياً فصيحاً...
هم أهل طرب أصيل، وحرب أصيلة، وأخلاق جميلة. هم الناعمون السلسون، الخشنون المقاتلون في ندرة، وهم ركيزة عربية أصيلة. ما الذي اقترفته حتى تصل إلى ما وصلت إليه من حال أعادها إلى نشأة الخليقة؟
ولكن، ما دام هنالك شعب، وإرادة، والشعب هناك مريد للحياة، فلا بد أن يستجيب القدر. وحتى ذلك الحين، لا نقول إلا "لا حول ولا قوة إلا بالله".
اقرأ أيضا: إعادة إعمار الوطن العربي
سلامٌ من صبا بردى أرقُ/ ودمعٌ لا يكفكف يا دمشق
وقصيدة:
قم ناجِ جلّق واندب رسم من بانوا/ مضت على الرسم أحداثٌ وأزمانُ
والأخيرة:
آمنت بالله واستثنيت جنته/ دمشق روح وجناتٌ وريحان
وكأن الشاعر يلخص ما نشهده على رسمها، أو ما تبقى منها، أحداثاً وكوارث يندى لها الجبين، وتقشعر منها الأبدان. وهذه ضواحي دمشق تروّع في إنسانها وحجرها بالقتل والدمار والتشتيت والهلع المريع الذي تعكسه عيون أطفالها الدامعات، وشعورهم الملوية المتسخة بالدم والغبار، والمجبولة بالدموع.
ولقد أنجبت دمشق لنا علماء، وقادة، ومفكرين، وشيوخاً، ومنشدين، وموسيقيين، وفنانين، وأبطالاً وصناعيين، وتجاراً، وأنتجت حريراً، وسيوفاً، وتحفاً فنية، وقدمت لنا ما هو جميل، يستحق أن تعاش له الحياة.
هذه الدرّة ذات الشذى العطر المنبعث من ياسمينها، والمياه الحلوة الدافقة من أرضها، والتراب الذي يشهد على عراقتها، أين كانت، وكيف في غمضة عينٍ من الزمن، ثوان معدودات من الدهر، ابتليت دمشق، حيث خسفت، ونسفت، ودكت.
وما انطبق على دمشق، انتقل إلى سواها من مدنٍ، كانت درراً في تاج الزمان. فحلب الشهباء، ذات الأهل الجميلين الرائعين في أدبهم، وشعرهم، وذوقهم، وطعامهم، وحرفيتهم، وحلاوة نسبهم، تعرضوا للأذى نفسه، فتساوت الفيحاء مع الشهباء في الأسى والحسرة.
أين نواعير حماة التي ابتليت مرتين في أقل من أربعين عاماً. وتغيّر ساكنوها، فأصبح أهلها غرباء فيها؟ وحمص مسقط رأس خالد بن الوليد الذي نعى نفسه بالموت على الفراش، بعد حروبٍ خاضها ومعارك انتصر فيها. ولا أرى سيف الله المسلول، إلا باسماً من حسن حظه على ميتته، حين رأى كيف يُقتل أهل حمص.
ما هي هذه القدرة المدمرة للإنسان، حين يتوحش. وتنظر إلى صور المدن والقرى السورية، فترى دماراً يذكّرك بيوم الحشر الأكبر. ومن ذا الذي يستحق أن يحيا ويحكم في مقابل ذلك الدمار، كائناً من كان؟
أخذتني جلالة الموقف إلى أماكنَ، ما كنت أظن أنني قادر على الوصول إليها. ولكن، من عرف سورية، وطاف في أرجائها، وعرف أهلها، لا يملك إلا أن يبكي حرقة ونحيباً.
لما كنت طفلاً في مقتبل العمر الواعي، أخذني والدي مع إخوتي إلى دمشق، لنشهد معرض دمشق الدولي. ولما وصلت إلى دمشق، وطوّفت في أرجائها، وشهدت "باص الترام"، أو ما يسمى بـ "الترام"، وعين الفيجة، والربوة، وسوق الحميدية، والمسجد الأموي.
واستمعت إلى اللهجة السورية "لوين رايح؟"، "مين لحشها؟"، "إصبع البوبو يا خيار"، "حبل الشيخ يا براد"، كنت أضحك سعيداً من طقطقات بائع شراب السوس والبلح. كنا نرتاد مطعم "الأمراء" في سوق الحميدية، ونأكل "فتة المقادم". واللبن الرايب ذا الطبقة الغنية من "القشدة"، والفول، وحرّاق إصبعه، والباذنجان المغلي، والكباب الحلبي وغيرها... ما يزال طعمها في قلبي وعقلي، قبل لساني...
ولا أنسى اليوم الذي تسلمت فيه نسخة من كتاب "مذكرات الحلاق الدمشقي البديري"، وهو يصف، في مياوماته، ما جرى ذلك اليوم في الأسواق، وأحاديث الزبائن الذين يأتون للحلاقة والتزيّن. وهو لا يتورع عن وصف هذا بالورع، وذاك بادعاء الورع.
ويقدم لك البديري رأيه في حركة السوق والأسعار، ويكتب إن سعر الطحين ارتفع بسبب التأخر في وصول قوافل القمح. ويرى الناس وهم يحتجون على الوالي بسبب الغلاء. ومع أن هذه المذكرات كتبت في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، (1140-1160)، إلا أنها ما تزال قضاياها حاضرة حتى هذه اللحظة.
وتتذكّر سوق الحميدية، إذ تدخل إليه. ويأتيك الشباب، ليقنعوك بالدخول إلى محالهم التجارية، أو زيارة مشغلهم خلف السوق. وتريد أن تشتري شيئاً من دون أن يتمكّن التاجر من اقتناص الرغبة في عينيك، حين تقع على شيء تحبه. فمن تلك النظرة، تخسر جزءاً من قدرتك التساومية معه، لأنه الخبير المبصر.
أهل دمشق، كما أهل سورية كلهم، شعب مثالي في سلوكه الاقتصادي والاجتماعي، فهم أصحاب حضارةٍ لا يبالغون في الاستهلاك، ولا يخجلون من العمل، ولا يسرفون في طلب المهور، ولا يعقّدون الزواج، ويحرصون على صلة الرحم، ويحبون صهرهم، مثل أولادهم. ولا يبادرون بالشجار قبل الحوار، ولا يبخسون الناس أشياءهم.
إنهم عمليون حتى النخاع، "وأبناء عيشة" كما يقول أهلنا في مصر الكنانة. وهم "مرجئون" مع سياسييهم، ويتحملون أخطاءهم وتجاوزاتهم، حتى لا تكون فتنة، لكنهم أشداء إذا طفح الكيل، ويتخلون عن مبدأ "يصطفلوا"، إذا مسّت كراماتهم.
كان بالإمكان أن تتخطى سورية ما جرى فيها من سفك دماءٍ وقتل وتهديم وتشريد ولجوءٍ، لو أن المسؤولين فيها عضّوا على نواجذهم، وأجّلوا استخدام العصا الغليظة.
سورية كانت بلداً يتسع لكل الاختلافات بين أهلها في الرأي، والعقيدة، والمنهج، والأصل، والحرفة، فهم يحبون العمل، ولا يتوقفون عند نوعه. وهم يحبون الله، ولا يجافون الآخر، لأنه يحب الله بطريقةٍ تختلف عنهم، ولا يضحكون من أحدٍ، بسبب اختلاف لهجته عنهم.
اختزل أهل دمشق، في كلامهم اليومي، كثيراً من الأحرف العربية، مثل الظاء، والثاء، والذال، والحاء، والهاء... واستمع له وهو يقول الرقم أحد عشر بلهجته "إيداش".. لكنهم أكثر من حافظ على اللغة، وبرع فيها، كتابة، وترجمة، ونصوصاً، وفناً منقوشاً، وتجويداً، وأداءً غنائياً فصيحاً...
هم أهل طرب أصيل، وحرب أصيلة، وأخلاق جميلة. هم الناعمون السلسون، الخشنون المقاتلون في ندرة، وهم ركيزة عربية أصيلة. ما الذي اقترفته حتى تصل إلى ما وصلت إليه من حال أعادها إلى نشأة الخليقة؟
ولكن، ما دام هنالك شعب، وإرادة، والشعب هناك مريد للحياة، فلا بد أن يستجيب القدر. وحتى ذلك الحين، لا نقول إلا "لا حول ولا قوة إلا بالله".
اقرأ أيضا: إعادة إعمار الوطن العربي