أن تكون اليوم قيّماً على المعارض في العالم العربي

08 فبراير 2016
لوحة للفنان الألماني أوغست ماكه (Getty)
+ الخط -
هم فصيلة جديدة من الوسطاء، ليسوا مندوبي المعارض الذين اعتدناهم، وكان جلّهم في فترات معينة من موظفي وزارة الثقافة أو من قطاع الفنون التشكيلية. كما أنهم ليسوا الفنانين الذين تقودهم شروط الممارسة الفنية وإكراهاتها لتنظيم المعارض لحسابهم الخاص أو لحساب جهة أخرى. إنهم وليدو الشروط الجديدة للتواصل الثقافي عمومًا، وتداول العمل الفني خصوصًا. وأبناء عمومة كل الوسطاء التقليديين بين العمل الفني والجمهور.

هم شباب غالبًا، متخرجون من شُعب تاريخ الفن أو النقد الفني، أو حاليًا من شعب جديدة في كليّات الفنون: "النقد الفني والكيوراتينغ" (Curating). وهم أيضًا ينزاحون بشكل واضح عن مندوب المعارض التقليدي، انزياح الفن الحديث عن الفن المعاصر، من غير قطيعة في المرامي، لكن باختلاف كبير في الطرائق والعلائق والوسائط المستعملة.

وإذا كان لنا أن نرسم بورتريهًا للقيّم، فسنرى فيه ذلك الشخص الذي يخلق تميزه بدءا من شكله، وانتهاء بالأمكنة التي يرتادها. ويكون في العادة متمكنًا من مختلف أشكال التواصل الجديدة؛ السمعية منها والبصرية، ويشغلها بشكل مستمر في تواصله. تراه يلتهم كل الأخبار عن الفن، ويهتم أكثر بالفنانين الناشئين والمبتدئين. كما تراه يرتاد غالبًا الصالات الجديدة ويزور مشاغل الفنانين. هذه الاستراتيجية العفوية والقصدية في الآن نفسه، هي من صميم كيانه. فذلك يمكّنه من الاشتغال بالفواصل بين المؤسسات الفنية الكبرى وبين الصالات الكبرى من جهة، وبين الصغرى والجمّاعين الأفراد والمبتدئين. إنه يمنحهم الحركية اللازمة للتفاعل الفوري مع الفنانين والصالات والجمّاعين، وخاصة المتاحف الكبرى والمتوسطة، التي تضطرها استراتيجيتها المتحفية إلى اقتناء أعمال فنية مركّبة مثل المنشآت الفنية والفيديو.

اقرأ أيضًا: ليلى العلوي، أما كان بوسعها أن تغافل الموت؟

هذا البورتريه الحركي يجعل "الكيوراتور" Curator صانعًا للأحداث الفنية وخالقًا أو مبتكرًا للفنانين. هو أشبه بالمايسترو الذي يركب ويناغم بين أدوات مختلفة، وهو بذلك يصل بين فضاءات مختلفة، غير مكتفٍ أبدًا بمكان محدّد. القيِّم المعاصر شخص لا يقوى على المكوث في مكان ما، أو في وصفة ما أكثر مما تبيحه له ديناميته الخاصة. فهو شخص شبكي بطبيعته وذو عيون حولاء ترى هنا وهناك، في تقاطع وحرية بالغتين. لذا يشتغل أغلب القيمين على خلق شبكات تواصلية بين الفنانين من مناطق مختلفة وبين الإقامات الفنية المتناثرة، كما بين البينالات الكبرى والنامية.

هذه المعطيات العامة هي التي تجعلنا نهتم اهتمامًا بالغًا بالقيّم الذي يتم اختياره مثلا لبينالي البندقية، باعتباره قبْلة سامية من قبْلات الفن الحديث والمعاصر. كذا بعدما كان رهان الفنان هو الأهم والوحيد المعطى، صار رهان القيّم أكبر، لأنه لا يرتبط فقط بطبيعة الأعمال وجودتها وأصالتها وفرادتها، بل بطريقة عرضها وتوليفها ومسرحتها، والدعاية لها والكتاب الذي يرافقها، الذي غالبًا ما يصير مرجعًا عن الفنان وعن القيّم أيضًا، بدلًا عن الكاتالوغ الذي يتصل فقط بالمعرض. القيّم يصنع بذلك مجده مع مجد الفنان (بل أحيانًا أكثر)، ويحوّل المعرض إلى فرجة حقيقية تقرب المتفرج من الفن المعاصر وغرابته وتقنياته المجددة.

اقرأ أيضًا: كريستين، قيّمة على الحديقة

عرف العالم العربي أيضًا هذا المفهوم الجديد، مع مطلع الألفية الجديدة. جاءه الأوائل من تكوين عصامي مع قيّمين معروفين، فيما جاءه آخرون من تكوين أكاديمي. وإذا كان أغلب القيّمين في العالم يمتهنون جيدًا الكتابة، ولهم تكوين صلب إلى هذا الحد أو ذاك في تاريخ الفن، فإن بعض المعروفين من القيمين لدينا، لا يجيدون التقديم ولا الكتابة. بيد أن هذا المثْلب ليس نقيصة كبرى لأن مهارة القيّم تتمثل في جانبه التدبيري العملي. البعض من هؤلاء أدخل مفهوميات جديدة للمجال الفني في بلده، وحرر الفضاء الفني من جموده الحديث، ليدخله من بابه الواسع إلى العالمية. هكذا صارت بيروت مثلًا، بفضل بعض الأسماء القليلة، قبْلة للفن المعاصر ومجالًا لتحرير الممارسة الفنية من طابعها الأحادي وأقانيمها العتيقة. والبعض الآخر خلق للفنانين العرب المعاصرين الشباب، شبكات أفريقية وعالمية جعلتهم يرتادون بينالات البنين ودكار وجنوب أفريقيا، وبينالات باريس والبندقية وبرلين.

هم قلة، أعني القيّمين المحترفين، بحيث لا يتجاوزون عدد الأصابع. لكنهم بدأوا يتزايدون مع دخول الفن العربي الحثيث إلى فضاء المعاصرة، وتحول القيم التشكيلية التقليدية التي كانت تمانع كل تجديد فضائي ووسائطي. هم نساء ورجال، يؤمنون بقوّة الفن المعاصر وبقدرته على التجذّر في بيئة منْكرة للتصوير والتشخيص والتمثيل والتعبير البصري. يعايشون الفنانين الشباب منهم خاصة، ويعتقدون بقدراتهم الفنية والإبداعية. يدفعون بهم ويصاحبونهم في تطورهم. يعرّفون بهم في الخارج ويدخلونهم شبكات الرواج والتفاعل الدولي. ولأنهم قلة، فإن الساحة الإبداعية المعاصرة بدأت تجذب العديد من القيمين الأجانب الذين يشبهون النوارس التي تغوص في قعر الماء لتمسك بالسمكة في قعر الموج وتحلق بها بعيدًا.

اقرأ أيضًا: الصورة والموت المعلن

ثمة حركية آسرة في العالم العربي، وفورة بدأ يدركها القيمون الشباب ويوجهون جهودهم لاستثمارها. وثمة أيضًا مفارقات وعوائق. منها أن الكثير من كَتَبة النقد، الذين يكتبون في كل المواضيع والصحف، يمارسون التعتيم على الحساسيات الجديدة والوسائط الجديدة كالأروقة والقيّمين. ومنها المعوقات التي توضَع أمام الحق في ارتياد الفضاء العمومي وتملّكه فنيًا. كما منها ندرة الموارد التي تتطلبها هذه الممارسات الجديدة، وندرة المتاحف القادرة على اقتناء الأعمال. كما منها تحوّل بعض القيّمين إلى نسور تقتات من جلدة الفنانين، أو تمنح القيمة لمن لا قيمة لهم.
المساهمون