أن تخلق معنى

16 ابريل 2015
+ الخط -

اخْلق معنىً جديداً.. تَعَقَّبْهُ في قمم جبل قاف، في أزقّةِ وسككِ بلاد صاد، اصطحب غطاساً وغُص معه في أعماق بحور النون، لتجد المادة الأولى التي يخلق منها معنى جديداً!.. لن تجد.. أجهد نفسك في هذه الأنحاء وغيرها.. لن تجد.

كم تتمنى أن تأتي بالمعنى الذي لم يسبقْك إليه أحد، أن تسأل السؤال الذي لم يُسْأل من قبل.. مُنى إنْ تكن، تكن أجمل المنى.

كم حِرْتَ جواباً في المعضلات، حتى إذا بلغ بك اليأس مبلغه أتاك جوابها، فقفزت عارياً من مكانك: وجدتها.. وجدتها.. ثم لا تلبث طويلاً إلا وتعرف أنك مسبوق ولست بسابق. كم سهرت من ليال تنشئ شعراً يكاد صرير قلمك يخرس من شدة ما تجد وأنت تخرج المعنى من معاناتك، فيَسِمُونك بسرّاق المعاني، ناقول ولست بمنشئ، فتقول: إن شيطانه شيطاني، فما غادر الشعراء من متردّم.

كل ما ستجده ستجد من سبقك إليه، من بسط الكلام فيه، من خرج من دهاليزه، وفك شيفرة ألغازه.. أنت كمَن ينظر في الحروف فيعزم أن يخلق حرفاً جديداً، فيخلق له واحداً لكنه من خامة تلك الحروف عينها.. أنت كمن يرى الأرقام فيكوِّن من الأرقام ذاتها معادلة لم تُكتب من قبل.

حسبك خلقاً للمعنى أن تجدّد معنىً قديماً، "أن توقظ فيه عاطفةً وحسّاً"، "أن تمتص من حريق معناه القديم رحيقاً وعبقاً جديداً"، أن تكون "حيث يمر الآخرون مرور الكرام لا تزال واقفاً"، أن ترى بعينيك ما رآه القدماء بأعينهم فتصف ما وصفوه، وتعيد كتابة ما كتبوه، فمجرد هذا الفعل جِدَة في قديم، إذ محال أن يُخاض في النهر مرتين. فـ"الطريق هو الطريقة"، يكفيك مُلْكاً على المعنى أن تكون "ملك صداه".

كم ترك الأول للآخر من سابقٍ ليصِلَه بلاحقٍ من صلب مادته، محال أن يخلق من العدم، فما اتّسع هذا الكون، وما تعدّدت أنواعه إلا من شُذَيْذَةٍ واحدة كَمنت فيها كل هذه الألوان والأشكال والأضواء والأجسام.. ولم يستطع أن يأتي بمعنى من خارج هذه الشُذيذة.

المعنى الأول مطلقٌ، قديمٌ، واحدٌ، تكثرت عنه المعاني، يكفيك أن تكشف تجلياته اللانهائية، أن تنظر في انعكاس المرايا عليه، أن ترجع البصر كرّاتٍ في زواياه وخباياه، أن تقتبس منه جذوة من نار توقد فيها خلقاً جديداً في ما يبدو.


(الكويت)