أنسي الحاج في "مونوبري"

18 فبراير 2014
أنسي الحاج مع رفاق مجلة شعر
+ الخط -

رأيت أنسي الحاج في دكانة "مونوبري" الفرنسية. كان الرجل الذي قدّم النثر في القصيدة، يتأكد من علبة صلصة. اقتربتُ منه. تطلعتُ في تسريحة شعره التي تحمل ملمحاً صبيانياً، في نظارتيه الجادتين. هذا كفيل بأن يُشعِرَ المرء بأرق.

لم تكن نظرته حالمة. لن تكون نظرة من يقرأ تاريخ انتهاء صلاحية علبة الصلصة "حالمة". علبة الصلصة حالمة. بدا الرجل باهظاً. وجود أنسي الحاج في المشهد الشعري كلَّفنا كثيراً في مسار الشعر. وجوده أساس، كان. لكنه كلّفنا. ربحنا وأخفقنا. ربحنا عقلية النثر، وأخفقنا في التخفف من العبارة الثقيلة. ضع العبارة المزخرفة الثقيلة في كفة ميزان، و2 كيلو بندورة في الكفة الأخرى: العبارة تطبش.

ثم جاء شعراء من بعده، خفّفوا من ثقل العبارة وبطئها لصالح الصورة والاستعارة. كتبوا بجرأة النثر. بقوة الاقناع فيه. تعلّموا ولم يقلدوا. ثم تركوا الجغرافيا والتاريخ، لبنان والحرب، ممسكين بما لفت الحاج الأنظار إليه. "لن"، قلتُ. لكن أنسي الحاج لم يسمع. لم يسمع "لن". لأن رسول القصيدة بشَعره الطويل، كان قد انتقل الآن إلى رفِّ الخضار. أجل، "لن" قلتُها وأنا مغمض عينيَّ. بامكانيات أنسي الحاج، رف الخضار قصيدة طويلة. الرجل يقرأ. لا يزال يقرأ. رغم أن لا كلمات مكتوبة على أكواز الخضار. فكرت أن أقول له "أنت مهم"، إلا أن أُنسي كان واقفاً في رأسي عند "لن". كان يمكن لما سأقوله أن يطلع "لن. أنتَ مهم". لكن أنسي لم يكن سيجيب على مجده بجملة معادِلة مثل "شكراً. أنتَ ترثني". لا لشيء. إلا لأن أنسي شاعر لم يرثه أحد. حتى أنسي الحاج نفسه، لم يرث أنسي "لن" ولا أنسي "الرسولة" ولا أنسي "الرأس".

 في دكانة "مونوبري"، شبح من أشباح زمرة "شعر". شبح ببدلة سموكينغ. لو كان هناك أي خلل في البدلة، أي خيط غبار، أي تجعيدة أو حافة منديل، لما شككتُ به. كما أن أصابع أنسي، الأصابع التي كتبتْ دواوينه الاولى، كانت الآن منفصلة عن يده ورسغه، ذراعه وعينيه. لا تليق بدلة مغلقة، مقفلة، موصدة، بشاعر ثار على مُحَكِّمي القصيدة في الستينات وما بعد. اقتربتُ منه محاولاً فكَّ ربطة عنقه، أن أنزع عنه الجاكيت، فتتناثر الأزرار بلقطة بطيئة في المكان ويخفض الناس المتبضعون رؤوسهم خوفاً. أزرار شاعر من طراز أنسي الحاج، مُسَنَّنة. "أستمحيكَ عذراً"، قلتُ. لكن أنسي لم يكن مصغياً. أستمحيكَ عذراً؟ هل قلتُ "أستمحيكَ" لرجل ابتكر طريقته في كتابة الشعر، كعرَّافٍ جديد في الحيّ، كحكيم يخرج من جبّته البعيدة كل البعد عن أن تكون بذلة سموكينغ، صوتاً يلمع إلى الأمام ويمتد إلى الوراء صوب أسطورة أو أغنية؟ لم أحب هذه الجملة، لكني لن أمحوها. أتركها لتدغدغ أنسي الحاج قليلاً، ليضحك على الأقل وهو ينتقي خضاراً مسكيناً من الرف. مَن له قلب أن ينتقي الخضار بكل تلك الجدية المخيفة التي يكتب فيها أنسي الحاج الشعر؟ 

* الكاتب شاعر فلسطيني مقيم في أيسلندا 

دلالات
المساهمون