أنسي الحاج: غيوم وقصائد أخرى

20 فبراير 2014
"أنسي" رسم لـ سحر برهان
+ الخط -

غيوم

غيوم، يا غيوم
يا صُعداء الحالمين وراء النوافذ
غيوم، يا غيوم
علِّميني فرَحَ الزوال!

* * *
هل يحِبّ الرجل ليبكي أم ليفرح،
وهل يعانق لينتهي أم ليبدأ؟
لا أسألُ لأُجاب، بل لأصرخ في سجون المعرفة.
ليس للإنسان أن ينفرج بدون غيوم
ولا أن يظفر بدون جِزْية.
لا أعرف من قسَّم هذه الأقدار، ومع هذا فإن قَدَري أن ألعب ضدّها.
هـلـمّـــي يا ليّنتي وقاسيتي،
يا وجهَ وجوه المرأة الواحدة،
يا خرافةَ هذياني،
يا سلطانةَ الخيال وفريستَه،
يا مسابِقةَ الشعور والعدد،
هلمّي الى الثواني المختلجة نسرق ما ليس لأحد سوانا.
وهْمُكِ أطيبُ من الحياة وسرابُكِ أقوى من الموت.

* * *

إسألني يا الله ماذا تريد أن تعرف؟
أنا أقول لك:
كلُّ اللعنات تغسلها أعجوبة اللقاء!
وجمْرُ عينيكِ يا حبيبتي يُعانق شياطيني.
تُنزلينني الى ما وراء الماء
وتُصعدينني أعلى من الحريّة.
أُغمض عليكِ عمري وقمري فلا تخونني أحلام.
يا نبعَ الغابات الداخليّة
يا نعجةَ ذئبي الكاسرة
مَن يخاف على الحياة وملاكُ الرغبةِ ساهرٌ يَضحك؟
لا يولد كلَّ يوم أحدٌ في العالم
لا يولد غيرُ عيونٍ تفتِنُ العيون!
نظرةٌ واحدة
نظرة
وعيناكِ الحاملتان سلامَ الخطيئة
تمحوان ذاكرة الخوف
وتُسيّجان سهولة الحصول بزوبعة السهولة!

* * *

أيّتها الغلافُ الحليبيُّ للقوَّة
يا ظاهرَ البحر وخَفيّ القمر
يا طُمأنينةَ الغَرَق
يا تعادُلَ حلمي وحركاتكِ وخيبتي وادهاشكِ
يا فوحَ الجذورِ الممسكة بزمام الأرض،
أيّتها الصغيرةُ المحمَّلةُ عبءَ التعويض عن الموت،
عن الحياة وعن الموت،
أيّتها المحجَّبةُ بعُريها،
أيّتها الملتبسةُ مع عطرها
أيّتها الملتبسُ عطرُها مع ضالّتي
أيّتها الملتبسةُ مع ظلّها
أيّتها الملتبسُ ظلَّها مع جسدي
أيّتها الملتبسةُ مع شَعرها
أيّتها الملتبسُ شَعرُها مع أجنحتي
أيّتها الملتبسةُ مع مجونها
أيّتها الملتبسُ مجونُها مع حريّتي
أيّتها الملتبسةُ مع عذوبتها
أيّتها الملتبسةُ عذوبتُها مع شراهتي
أيّتها الملتبسةُ مع صوتها
أيّتها الملتبسُ صوتُها مع نومي
أيّتها الملتبسةُ مع ثوبها
أيّتها الملتبسُ ثوبُها مع حنيني
أيّتها الملتبسةُ مع مرحها
أيّتها الملتبسُ مرحُها مع حَسَدي
أيّتها الملتبسةُ مع فخذيها
أيّتها الملتبسة ُفخذاها مع تجدّدي
أيّتها الملتبسةُ مع صمتها
أيّتها الملتبسُ صمتُها مع انتظاري
أيّتها الملتبسةُ مع صبرها
أيّتها الملتبسُ صبرُها مع بلادي
أيّتها الملتبسةُ مع أشكالها
أيّتها الملتبسةُ أشكالُها مع روحي
أيّتها الملتبسةُ مع نصف عُريها
أيّتها الملتبسُ نصفُ عريها مع أملي
مع أمل دوام الحُمّى،
أيّتها الَتي أُغمضُ عليها إرادتي واستسلامي
لمْ تقولي إننا غريبان
لأنكِ تعرفين كم لنا توائم
في كلّ من يذهب وراء عينيه...

* * *

وأخافكِ!
كيف لرجلٍ أن يعشق مُخيفه؟
من يدفع بالدافىء الى الصقيع وبالمستظلّ الى الهاجرة؟
من يقذف بالصغير الى الخارج ويحرم الرضيع التهامَ أمّه؟
ولِمَ يحلُّ وقتُ السوء ولِمَ يُنهَش الصدر؟
ليس للإنسان أن ينفرج بدون غيوم ولا أن يظفر بدون جزية،
فليكن للقَدَر حكمته، ستكون لي حكمتي
وليكن للقَدَر قضاؤه، ستكون لي رحمتي.
لم يخلّصنا يا حبيبتي إلاّ الجنون
شبَكتُكِ ألْهَتني عن الحياة
ولهوُكِ حماني،
قيودُ يديكِ طوّقتْ قلبي بالغناء
وجمرُ عينيكِ عانق شياطيني.

* * *

لنفسي لونُ عيونِ قتلى الذات
المدمَّرين وراءَ بابٍ ما
ابتسامةٍ ما.
خيانةٌ دوماً، خيانةٌ لا تُطاق
أفدحُ من أيِّ فقْد،
خيانةٌ تسلبكَ عمركَ
تسلبكَ أمّكَ وأباك
تسلبكَ أرضكَ وسماءك،
خيانةٌ يا إلهي أكبرُ من حضنكَ،
ولا أحد يستطيع شيئاً!
لا أحد يستطيع شيئاً!

* * *

في وقت من الأوقات لم يكن أحد.
كان الهواءُ يتنفّس من الأغصان
والماء يترك الدنيا وراءه.
كانت الأصوات والأشكال أركاناً للحلم،
ولم يكن أحد.
لم يكن أحد إلاّ وله أجنحة.
وما كان لزومٌ للتخفّي
ولا للحبّ
ولا للقتل.
كان الجميعُ ولم يكن أحد.
أحدٌ لم يكن كاسراً.
كانت الأمُّ فوق الجميع
وكان الولد بأجنحته.
وصاعقاً
أعلن الألمُ المميت أنه هنا،
في الداخل الليّن، ولم يكن يراه أحد.
وانبرى يَبْري
ثم يَهيل التراب على الوجه
على العينين
على الغمامة التميمة.
ولم يبقَ من تلك الكروم
إلاّ ذكرى أستعيدُها أو تستعيدُني،
تارةً أقتُلُ وطوراً أُقتَل
والشرُّ إمّا في ظهري وإما في قلبي!...

* * *

رفعتُ قبضتي في وجه السماء
لَعنتُ وجدّفت
ولكنْ قلْ لي كيف أنتهي
من جحيم السماء بين ضلوعي!؟

* * *

لم يُخلّصنا يا حبيبتي إلاّ الجنون
حين طفرنا الى الضَياع النضير
والتقينا ظلالنا
فأضاءتنا عتماتُنا
وصارت أحضانُنا موجاً للرياح.

* * *

الشاعر هو المتوحّش ليحمي طفولتنا
الملحّن هو الأصمّ لكي يُسمِع
المصوّر هو الأعمى لكي يُري
الراقص هو المتجمّد لكي نطير.
لا يَحضر إلاّ ما يغيب
ولا يغيب إلاّ ما يُحضِر.
فلأغبْ في شرود المساء
فلتبتلعني هاويةُ عينيّ!...

* * *

أيُّ صلاةٍ تُنجّي؟
كلُّ صلاةٍ تُنَجّي!
والرغبة صلاةُ دمِ الروح
الرغبة وجه الله فوق مجهولَين
ونداءُ المجهولِ أن يُعطى ويـظــلّ مجهولاً.
الرغبةُ نداءُ الفريسة للفريسة
نداءُ الصيّاد للصيّاد
نداءُ الجلاّد للجلاّد
الرغبةُ صلاةُ دمِ الروح
فَرَسُها الفرسُ المجنّحة
وجناحاها
جناحا خلاصٍ في قبضة اليد.

* * *

غيومُ، يا غيوم
رسمتُ فوق الفراغ قوسَ غمامي
قوسَ غمامنا أيّها الحبّ
قوسَ غمام المعجزة اليوميّة.
غيوم، يا غيوم
يا هودجَ الأرواح
جسدي يمشي وراءكِ، يمشي أمامكِ،
يتوارى فيكِ.
غيوم، يا غيوم
باركي الملعونَ السائرَ حتّى النهاية
باركينيِ
علِّميني فَرَحَ الزوال...

(1998-1996)

ماذا صنعتَ بالذّهب
ماذا فعلتَ بالوردة

قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت.
سوف يكون للجميع وقت، فاصبروا.
اصبروا عليَّ لأجمعِ نثري.
زيارتُكم عاجلة وسَفَري طويل
نظرُكم خاطف وورقي مُبعْثَر
محبّتُكم صيف وحُبّيَ الأرض.

مَن أُخبر فيلدني ناسياً
إلى مَن أصرخ فيُعطيني المُحيط؟
صــار جسدي كالخزف ونزلتُ أوديتي
صـارت لغتي كالشمع وأشعلتُ لغتي،
وكنتُ بالحبّ.
لامرأةٍ أنهَضتُ الأسوار فيخلو طريقي إليها.
جميلةٌ كمعصيةٍ وجميلةٌ
كجميلة عارية في مرآة
وكأميرةٍ شاردة ومُخمَّرة في الكرْم
ومَن بسببها أُجليتُ وانتظرتُهاعلى وجوه المياه
جميلةٌ كمَركب وحيد يُقدّم نفسه
كسريرٍ أجده فيُذكّرني سريراً نسيتُه
جميلةٌ كنبوءة تُرْسَل الى الماضي
كقمر الأغنية
جميلةٌ كأزهارٍ تحت ندى العينين
كسهولة كلّ شيء حين نُغمض العينين
كالشمس تدوس العنب
كعنبٍ كالثّدْي
كعنبٍ ترْجع النارُ عليه
كعروسٍ مُختبئة وراء الأسوار وقد ألقتْ عليَّ الشهوة
جميلةٌ كجوزةٍ في الماء
كعاصفةٍ في عُطلة
جميلةٌ أتتني
أتت إليّ لا أعرف أين والسماء صحو
والبحر غريق.
من كفاح الأحلام أقبلتْ
من يَناع الأيّام
وفاءً للنذور ومكافأةً للوَرد
ولُمّعتُ منها كالجوهرة.

سوف يكون ما سوف يكون
سوف هناك يكون حُبّنا
أصابعه مُلتصقة بحجار الأرض
ويداه محفورتان على العالم.
أُنقلوني الى جميع اللّغات لتسمعني حبيبتي
أُنقلوني الى جميع الأماكن لأحْصرَحبيبتي
لترى أنّني قديمٌ وجديد
لتسمَعَ غنائي وتُطفىء خوفي.
لقد وَقعْتُها وتهتُها
لقد غِرْتُها
أعيروني حياتكم لأنتظر حبيبتي
أعيروني حياتكم لأُحبّ حبيبتي
لأُلاقيها الآن والى الأبد.
لَكُم أنتم لتدقَّ الساعات
من سراجكم ليؤخذْ نور الصباح
فأنا بريءٌ وحبيبتي جاهلة
آه ليُغدَق علينا
لنُوفَّرْ لنُجْتنَبْ
وليُغدَقْ علينا
فحُبّي لا تكفيه أوراقي وأوراقي لا تكفيها أغصاني
وأغصاني لا تكفيها ثماري وثماري هائلةٌ لشجرة.

أنا شعوبٌ من العُشّاق
حنانٌ لأجيالٍ يقطر منّي
فهل أخنق حبيبتي بالحنان وحبيبتي صغيرة
وهل أجرفها كطوفانٍ وأرميها؟
آه من يُسعفني بالوقت من يُؤلّف ليَ الظلال مَن يُوسّع الأماكن
فإنّي وجدتُ حبيبتي فلِمَ أتركها...

ما صَنعَتْ بيَ امرأةٌ ما صنعتِ
رأيتُ شمسكِ في كآبة الروح
وماءكِ في الحُمّى
وفمكِ في الإغماء.
وكنتِ في ثيابٍ لونُها أبيض
لأنّها كانت حمراء.
وأثلَجَتْ
والثلج الذي أثلجت كان أحمرَ
لأنّكِ كنتِ بيضاء
ورَدَدْتِ عليَّ الحُبّ حتّى
لا أجد إعصاراً يطردكِ
ولا سيفاً
ولا مدينةً تستقبلني من دونكِ.
هذا كُلّه
جعلْتُه في ندَمي
هذا كُلّه جعلْته في أخباري
هذا كُلّه جعلْته في فضاءٍ بارد
هذا كُلّه جعلْته في المنفى
لأنّي خسرْتكِ
إذ ملأتُ قلبي بالجنُون وأفكاريَ بالخُبث
فكتمتِ وانفصَلتِ
وكنتُ أظنّكِ ستصرخين وتبكين وتُعاودين الرضى
ولكن كتمتِ وانفصَلتِ
وكنتُ أظنّكِ ستعرفين أنّ نفسيَ بيضاء برغم الشرّ
وأنّي لعباً لعبتُ وحماقتي طاهرة
وكنت أظنّ أنّكِ وديعةٌ لتغفري لي
أنّكِ وديعةٌ لأفعل بكِ كالعبيد
وكنتُ أظنّ أنّي بفرحٍ أظلمكِ وبفرحٍ تتنفّسين ظلمي
وكنتُ أظنّ أنّي ألدغكِ فتتّسع طمأنينتي
وأنقضكِ كالجدار فَتَعْلَقين كالغبار بأطرافي
لكنّي ختمتُ الكلام وما بدأتُه
وأتفجَّع عليكِ لأنّي لم أعرف أنْ أكون لكِ حُرّاً
ولا عرفتُ أنْ أكون كما تكون اليد للزهرة
فكنتُ مغنّياً ولكِ ما غنّيت
ومَلِكاً وأنتِ لم أملك
وأُحبّكِ
وما أحببتكِ إلاّ بدمار القلب وضلال المنظر
وأُحبّكِ
وطاردتكِ حتّى أشاهد حُبّكِ وهو نائم
لأعرف ماذا يقول وهو نائم
فحمَله الخوف وروّعه الغضب
وهرب الى البُرج عالياً
كاتماً قد انفصل
وأنا في جهلي أطوف وفي حكمتي أغرق
على موضعٍ أدور على موضعٍ أهدأ
وحُبّكِ يقظان وجريح وراء الأسوار
وحُبّي بارّ بعد الأوان
نارُ البِرّ تأكله بعد الأوان.

أحفظُ مظالمي وأعطي مبرّاتي
أحفظُ مظالمي فمن يُعطيني مظالمه
ومن يأخذ مبرّاتي ويُعطيني الرجاء
لأنّي لم أعد ألمح نوراً في الغابة.
تذهب الريحُ بالثلج وبالثلج تعود.
جسدي كالخزف ولُغتي كالشمع.
إتّخذتُ آفاقاً عظيمة وجعلتُها حُفَراً
إتّخذتُ اللّيل فأطفأتُه والنهار فأسلمتُه
إتّخذتُ الأكاليل فاحتقرتُها
إتّخذتُ الحُبّ فكسرتُه
إتّخذتُ الجَمال وكرَجلٍ أفقرْتُه
إتّخذتُ الحُبّ
إتّخذتُ الحُبّ الشبيه ببَرٍّ لا يحدّه ماء
الشبيهَ بمياهٍ لا تحدّها برّيّة
إتّخذتُ الحُبّ عوضَ كُلّ شيء مكانَ كُلّ مكان
بدَلَ الجوهر ومحلَّ الشرّ والخير
أخذتُه أخذتُ الحُبّ وشكاني
الذين صاروا في فاقة
وتعالت جُفونهم الذين حسدوني
ونهش ضحكهم الهواء الذين تهكّموني
فماذا صنعتُ بالحُبّ
وأخذتُ ذهَبَ النساء وردةَ الذهب
فماذا صنعتُ بالذهب وماذا فعلتُ بالوردة؟
أُنقلوني الى جميع اللّغات لتسمعني حبيبتي
ثبِّتوها على كُرسيّ وجِّهوا وجهها إليّ
أمسكوا رأسها نحوي فتركض إليّ
لأنّي طويلاً وبّختُ نفسي ويأسي قد صار مارداً.
أطيعي دمعكِ يا حبيبتي فيُطرّي الحصى
أطيعي قلبكِ فيُزيلَ السياج
ها هو العالم ينتهي والمُدنُ مفتوحةٌ المُدنُ خالية
جائعةٌ أنتِ وندَمي وليمة
أنتِ عطشانة وغُيومي سودٌ والرياح تلطمني.

العالمُ أبيض
المطرُ أبيض
الأصواتُ بيضاء
جسدُكِ أبيض وأسنانُكِ بيضاء
الحبرُ أبيض
والأوراقُ بيضاء
إسمعيني اسمعيني
أُناديكِ من الجبالِ من الأودية
أُناديكِ من أعباب الشجرِ من شفاه السحاب
أُناديكِ من الصخر والينابيع
أُناديكِ من الربيع الى الربيع
أُناديكِ من فوق كُلّ شيء من تحت كُلّ شيء ومن جميع الضواحي
إسمعيني آتياً ومحجوباً وغامضاً
إسمعيني اسمعيني مطروداً وغارباً
قلبيَ أسوَدُ بالوحشة ونفسيَ حمراء
لكنَّ لوحَ العالم أبيض
والكلمات بيضاء.

كلُّ قصيدة
كلُّ حبّ

كلُّ قصيدةٍ هي بدايةُ الشعر
كلُّ حبٍّ هو بدايةُ السماء.

تَجذري فيّ أنا الريح
اجعليني تراباً.
سأعذبكِ كما تُعذب الريحُ الشجَرَ
وتمتصّينني كما يمتصُّ الشجرُالتراب.
وأنتِ الصغيرة
كلُّ ما تريدينه
يُهدى إليكِ الى الأبد.

مربوطاً إليكِ بألم الفرق بيننا
أنتزعُكِ من نفسكِ
وتنتزعينني،
نتخاطف الى سكرة الجوهريّ
نتجدّد حتى نضيع
نتكرّر حتى نتلاشى
نغيبُ في الجنوح
في الفَقْد السعيد
ونَلِجُ العَدَم الورديّ خالصَين من كلّ شائبة.

---------------

ليس أنتِ ما أُمسك
بل روح النشوة

... وما إن توهّمتُ معرفةَ حدودي حتى حَمَلَتني أجنحةُ التأديب الى الضياع.
لمنْ يدّعي التُخمةَ، الجوعُ
ولمن يعلن السأمَ، لدغةُ الهُيام
ولمن يصيح " لا! لا!"، ظهورٌ موجع لا يُرَدّ
في صحراء اليقين المظفَّر.
ظهورٌ فجأةً كدُعابة
كمسيحةٍ عابثة
كدُرّاقةٍ مثلَّجة في صحراء اليقين،
ظهوركِ يَحني الرأسَ بوزن البديهة المتجاهَلَة
فأقول له "نعم! نعم!"،
والى الأمام من الشرفة الأعلى
كلّما ارتميتُ مسافَةَ حبّ
حرقتُ مسافةً من عمر موتكَ
كائناً من كنتَ!...

----------

ترتفعُ

ترتفع جذوركِ في العودة
تمضي
واصلةً الى الشجرةِ الأولى
أيّتها الأمُّ الأولى
أيتها الحبيبةُ الأخيرة
يا حَريقَ القلب
يا ذَهَبَ السطوح وشمسَ النوافذ
يا خيّالةَ البَرق المُبْصر وجهي
يا غزالتي وغابتي
يا غابةَ أشباح غَيرتي
يا غزالتي المتلفّتة وسط الفَرير لتقول لي: اقتربْ،
فأقترب
أجتاز غابَ الوَعْر كالنظرة
تتحوّل الصحراء مفاجرَ مياه
وتصبحين غزالةَ أعماري كلّها،
أفرّ منكِ فتنبتين في قلبي
وتفرّين منّي
فتعيدكِ إليّ مرآتكِ المخبأة تحت عتبة ذاكرتي.

يداكِ غصونُ الحرب
يداكِ يدا الثأر اللذيذ مني
يدا عينيكِ
يدا طفلةٍ تَرتكب
يداكِ ليلُ الرأس.

تُسكتينني كي لا يسمعونا
ويملأُ الخوفُ عينيكِ
مُدَلّهاً مختلجاً بالرعب
كطفلٍ وُلد الآن.

تنسحب الكلمات عن جسدكِ
كغطاءٍ ورديّ.
يَظهر عُريكِ في الغرفة
ظهورَ الكلمة الأوحد
بلا نهائيّةِ السراب في قبضة اليد.

مَن يحميني غابَ النهار
مَن يحميني ذَهَبَ الليل.
ليس أيَّ شوقٍ بل شوقُ العبور
ليس أيَّ أملٍ بل أملُ الهارب الى نعيم التلاشي.
فليبتعد شَبَحُ الخطأ
ولا يقتحْمنا باكراً
فيخطف ويطفىء
ويَقتل ما لا يموت
لكي يعيش بعد ذلك قتيلاً.

الحبّ هو خلاصي أيّها القمر
الحبّ هو شقائي
الحبّ هو موتي أيّها القمر.

لا أخرج من الظلمة إلاّ لأحتمي بعريكِ ولا من النور إلاّ لأسكر بظلمتك.
تربح عيناكِ في لعبة النهار وتربحان في لعبة الليل.
تربحان تحت كلّ الأبراج وتربحان ضدّ كل الأمواج.
تربحان كما يربح الدِين عندما يربح وعندما يَخْسر.
وآخذ معي وراءَ الجمر تذكارَ جمالكِ أبديّاً كالذاكرة المنسيّة،
يحتلّ كلَّ مكان وتستغربين
كيف يكبر الجميع ولا تكبرين.

ذَهَبُ عينيكِ يسري في عروقي.
لم يعد يعرفني إلاَّ العميان
لأنهم يرون الحبّ.

ما أملكه فيكِ ليس جسدكِ
بل روحُ الإرادة الأولى
ليس جسدك
بل نواةُ الجَسد الأول
ليس روحكِ
بل روحُ الحقيقة قبل أن يغمرها ضباب العالم.

الشمس تشرق في جسدكِ
وأنتِ بردانة
لأن الشمس تَحرق
وكلّ ما يَحرق هو بارد من فرط القوّة.

كلّ قصيدةٍ هي قَلْبُ الحبّ
كلّ حبٍّ هو قلبُ الموت يخفق بأقصى الحياة.
كلّ قصيدةٍ هي آخرُ قصيدة
كلّ حبٍّ هو آخرُ الصراخ
كلّ حبٍّ، يا خيّالةَ السقوط في الأعماق، كلّ حبٍّ هو الموت حتى آخره،
وما أُمسكه فيكِ ليس جسدكِ
بل قَلْبُ الله
أعصره وأعصره
ليُخدّر قليلاً صراخُ نشوتِهِ الخاطفة
آلامَ مذبحتي الأبديّة.

------------------

أغار

أغارُ عليكِ من الطفل الذي كُنتِ ستلدينه لي.
من المرآة التي ترسل لكِ تهديدكِ بجمالكِ.
من شُعوري بالنقص أمامكِ.
من حُبّكِ لي.
من فنائيَ فيكِ.
ممّا أكتب عنكِ كأنّني أرتكب فضيحة.
من العذاب الذي أُعانيه فيكِ، من العذاب الأكثر بلاغةً من المتعذبين.
من صوتكِ من نومكِ من وضع يدكِ في يدي.
من لفظ اسمكِ.
من جهل الآخرين أنّي أحبّكِ، من معرفة الآخرين أنّي أُحبّكِ،
من جهل الآخرين أنّي أغار عليكِ،
من معرفة الآخرين أنّي أغار عليكِ.
من سعادتي بكِ، من سعادتكِ بأيّ شيء، من وجودكِ حُرّةً
من وجودكِ عَبْدَةً
من وجودكِ لحظةً.
أغار عليكِ من غَيْرتي عليكِ.
من أوّل مساء.
من عطائكِ لي.
من تعلُّقي بكِ أشَدّ أشَدّ.
أغار عليكِ لأنّك تقرأينني وأنا أريد أن تحفظيني.
لأنّكِ قد تحفظينني وتحفظين سواي.
لأنّي لا أرى غيرَ حَمْقى،
لأنّي لا أرى غيرَ أذكياء.
لأنّي أُحاصركِ وأتعهّدكِ كالوحش.
لأنّ حُبّي يخنقكِ.
أغار عليكِ ممّا أشتهيكِ أنْ تكوني، وممّا تشتهين أنْ تكوني، وممّا لا تقدرين أن تكوني.
من المرأة لأنّكِ امرأةٌ ومن الرجل لأنّه يراكِ.
من الجنس لأنّه حتّى يعود يجب أن يتوقّف.
من كُلّ ما سيكسره نظركِ.
أغار عليكِ لأنّي خَطَبْتكِ جاهلاً عددَكِ.
لأني أخنقكِ بحُبّي وأنت لا تقدرين أنْ تُحبّيني وأنتِ مخنوقةٌ بحُبّي.
لأنّي ساخطٌ لأنّكِ أجملُ النساء.
لأنّي أمدحكِ فأخاف أنْ تسمعي في مديحي أصواتَ آخرين.
أغار عليكِ من الأشياء التي يكبر فرحكِ بها لأنّكِ تُحبّينني.
من نبوغ جسدكِ.
من عابري السبيل ومن الذين جاؤوا ليبقوا ومن الأبطال والشهداء والفنّانين.
من إخوتي وأولادي وأصدقائي.
من الأقوياء لأنّهم يأخذون الإعجاب ومن الضعفاء لأنّهم يبدأون بأخذ الشفقة.
من لبوءة الرجاء النائمة.
من الأنغام والأزهار والأقمشة.
من انتظار النهار لكِ، ومن انتظاركِ اللّيل.
من أقصـى الماضي الى أقصـى الماضي.
من الكُتب والهدايا ومن لسانكِ في فمي.
من إخلاصي لكِ فُرادى وجماعات.
من الموت.
أغار عليكِ أجَنَّ أجَنَّ كلّما تضايقتِ من غَيْرتي عليكِ.
أغار عليكِ من جميع الأعداء ومن جميع الحلفاء.
من الحياة الرائعة التي نقدرأنْ نعيش.
من ورق الخريف الذي قد يسقط عليكِ.
من الماء الذي يَتوقّع أنْ تشربيه.
من الصيف الذي تخترعينه بعُرْيكِ.
من الطفل الذي كُنتِ ستلدينه لي.
من الطفل الذي لن تلديه أبداً...

من "ماذا صنعتَ بالذهب ماذا فعلت بالوردة" 1970

-------------

أخافُ أن أعرف

أجمْلُه ما بين الجهل والمعرفة. أكثرُه ألَماً وأشدُّه اعتصاراً.
لا أعرف ما ستقرّرين. عيناكِ اللتان في لون ثيابكِ ثابتتان في دوختي ثباتَ الحَيرة المنقِذة في العذاب.

كذابٌ هذا الصقيع، كذابٌ ذلك البحرالتافه، كذابٌ أيُّ انهماكٍ كان: سوف أنساك. كذابٌ أنا، لو كان لي أنْ أنساكِ لما فعلتُ لأنّكِ، أنتِ أيضاً، لستِ لي. وكيف أنسى من ليست لي!
كان يكون مريحاً لو.
لكنّي كذابٌ أيضاً. أرْفُضُ هذه الراحة. يَحْدث ما يحدث وما لا يجب أن يحدث وما لا يحدث. أحبّيني لا لأني أُحَبّ، بل لأن عينيكِ تُحبّان طريقتهما في إحراقي.
يوم ولدتِ كنتُ كبيراً. أمسِ كنت صغيراً يومَ كبَرتِ. ولولا الضوء لما رأيتُ من عمري سوى الرعشة. صغيراً كالبداية، وأنتِ كبيرةٌ ككلّ ما يجعل النهايات تبدأ من جديد.
أنتِ لسوايَ، ككلّ مَنْ أحْبَبْتُ. لسوايَ، ككلّ ما هو لي.
قَدَر المشتهي مُقتنى غيرِه، قَدَرُحامل الفتنة، قَدرُ الزائرِ الغريب، قَدَرُ ناشرِ الاضطرابوالحريّة، قَدَرٌ جميلٌ هو قَدَري.
وبين الجهل والمعرفة مصيري وأخاف أن أعرف ما سيصير.
أجْمَلُه ما بين الجهل والمعرفة، تُدلّلُكَ أحلام القَلَق وتغدر بك.
والويل لك من جمال تنكيل تلك الحَيرة، والويل لك من اليقين!
فأنتَ مولودٌ تحت التاج والسُمّ.

من "الوليمة" 1994

------------

الهارب

إرهابنا تحقق ضدنا

الذين هم يجب أن يُقتلوا، سرقوا منا المفتاح وقَتَلوا

وبعدما زيفوا الخلق ها قد زيفوا القتل
كتبنا عُنفنا وسكرنا كالروس البيض، ولم نعد نملك سوى أملٍ متلاشٍ
بأن يسعفنا، إذا أمكن، رجع صدىً لحقدٍ ما. ولكنه هو الآخر ينساب
هارباً، يختفي طائراً كملاكٍ مأمورٍ فجأة بالعودة .

من "الوليمة" 1994

 

المساهمون