بعد أن نقلتُ سكني إلى برلين، كوّنتُ شبكةً معقولة من العلاقات مع الأصدقاء، الألمان عموماً. نادراً ما أستطيع أن أستمرّ ساعات طويلة في التسامر والخروج مع الأصدقاء. وذلك لأسباب متعدّدة، منها عدم وجود مواضيع مشتركة كثيرة مع الشباب الألماني من جيلي، وضعف الاهتمام بالشأن العام وبالأوضاع السياسية من قِبل الشباب الغربي عموماً (وهذا توصيف وليس حكم قيمة على الإطلاق).
في بلدٍ مثل ألمانيا، السياسية خيار وليست إجباراً، ويقتصر الاهتمام بالشؤون السياسية على طلاّب الجامعات في العلوم الإنسانية. يبدو أن السياسة تقلّ كلّما ازداد الرفاه.
في أحد أيام الشتاء، تمَّت دعوتي من قبل أحد الأصدقاء إلى أحد ديسكوهات الرقص العنيفة في حيّ كرويزبرغ في برلين. وهو الحي الأكثر جذريّة في نمط حياته، والذي يمتلك فعلاً مقاومة اجتماعية حقيقية للنظام الرأسمالي العام في البلاد.
وطبعاً، تصطبغ ثقافة هذه الأمكنة بالأيديولوجيا اليسارية التحرّرية المعادية للنيوليبرالية. ويتميّز نمط الحياة هناك، بحدّة الوعي الذاتي البيئي (غالبيّتهم نباتيّون)، وتقديس حركات الفيمنمزم والمثلية والدفاع عن حقوق المهاجرين. كما يتميّز الحي بانتشار أعداد هائلة من الفنانين، وشيوع المخدّرات. كان "الكلوب" تحت الأرض ثلاثة طوابق، رقص جنوني عنيف وإحياء لطقوس غريبة، وأناس بأشكال مختلفة.
إنه عالم الأندرغراوند. في الحقيقة، لم أستطع أن أبقى في المكان أكثر من ربع ساعة. خرجتُ وأنا أدْمَع.
تنصُّ البداهة الهيغلية على أن نسبة الأمان في أي مَقطَع زماني- مكاني في التاريخ، تعتمد بالدرجة الأولى على سُمْك واتّساع الطبقة الوسطى. أي أن حاجة الطبقة الوسطى إلى الأمان، هي شرطٌ أساسي لوجودها واستمرارها.
يُقصَد بالأمان، كافّة أشكاله؛ من الأمان الاقتصادي (مكاتب العمل التي تقدّم مساعدة اجتماعية للعاطلين، ونظام الراتب التقاعدي)، والأمان الصحي (مؤسّسات التأمين الصحي)، والأمان الأمني (عمومية عنف جهاز الدولة وعدالته)، والأمان السياسي (تحويل النزاعات إلى سياسة وليس السياسة إلى نزاع).
في المقطع الزماني - المكاني الذي انبثقتُ منه، لا أمان في المجتمع، في سورية، نواجه الحقيقة بشكلها العاري المجرّد القاسي، لا وسيط بيننا وبينها، نواجه المرض وحيدين، نواجه عنف الدولة متروكين، نواجه الفقر معزولين، ونخاف من آرائنا، لأن لا بعد لفظيّاً لنزاعاتنا، بل هي مادية في الشارع.
ورغم أني أحارب الاقتباسات، إلا أن الاقتباس الهيغلي هو مولّد ومؤسّس للفكرة التي أقوم بطرحها، إذ يقول: "الشعور بالأمان، يفقدك القدرة على تلمّس وتحسّس نصف الحقيقة".
ومنه، فإنَّ الأندرغراوند الغربي، هو خداع طبقي عميق، هو محاولة لتكسير شروط الأمان، والتفاف على الأمان الفيصل بين المرء والحقيقة العارية. ولكن، يبقى هذا الاقتراب سياحيّاً ومزيّفاً واستشراقيّاً وضعيفاً، هو اقتراب مُبَعِّد، هو اقتراب لتثبيت شروط الابتعاد، وهو اليأس المطبق والضجر المتعب من الأمان. ما نعيشه فوق الأرض في سورية، يتمّ خلقه تحت الأرض في الغرب.
أدْمَعت، لأن الدولة الحديثة تشتق سياساتها، بشكل من الأشكال، من شروط حياة الطبقة الوسطى، من أشكال حيوات أفرادها، من هاجس استمرار أمانهم. ويبدو، بأن شروط حياة الطبقة الوسطى في الغرب، واستمرارِ أمانهم التاريخي، يتغذى بشكلٍ أساسي من لا أمان حيواتنا، من استمرار بقائنا معزولين ومتروكين. فهل رغبة الأندرغراوند في هذا الكسر السطحي اللافعّال لشروط الأمان، هي محاولة نرجسية لرؤية ما يصنعونه بالآخرين، هل هو مرور لئيم بالتقمّص المؤقّت لحيوات من يرفد حيواتهم، ويفعّل بقاءهم ويغذي استمرار وجودهم.
لماذا تحاولون أن تأتوا إلينا؟ ألا ترون أننا نأتي إليكم؟
* كاتب سوري، والنص جزء من محاضرة ألقيت في منتدى "أشغال داخلية" البيروتي قبل أيام
اقرأ أيضاً: أطلال في عصر الحروب المتلفزة