ستتحول الأنظار إلى المستشارة أنجيلا ميركل في الأيام المقبلة. وستحتاج لاستحضار كل قدرات الألمان التفاوضية، كي تصل إلى توافق مع البلدان الأوروبية المتحفظة حول خطة الإقلاع الاقتصادي التي وضعتها المفوضية الأوروبية.
سيطغى الإنقاذ الاقتصادي في ظل الرئاسة الألمانية لأوروبا التي بدأت في الأول من يوليو/ تموز، على ملفات أخرى كانت ميركل ترنو إلى التقدم بها، من قبيل الوصول إلى اتفاق مع بريطانيا حول ملف بريكست، وتوضيح الرؤية حول العلاقات مع الصين في قمة تعقد في سبتمبر/ أيلول المقبل، حيث تتطلع ميركل الحريصة على العلاقات التجارية المتعددة الأطراف، على تشكيل كتلة أوروبية موحدة في مواجهة العملاق الآسيوي.
ستكون هي في قلب المفاوضات بهدف الوصول إلى توافق حول مخطط المفوضية الأوروبية، الذي يحظى بدعم فرنسا وألمانيا، حيث يقضي ذلك المخطط باقتراض أوروبي بقيمة 750 مليار يورو، وهو الاقتراض الذي سيوزع على شكل مساعدات وقروض على البلدان التي عانت أكثر من تداعيات الأزمة الصحية مثل إيطاليا وإسبانيا.
وينتظر أن يتم سداد ذلك القرض من موازنة الاتحاد، حسب الحصة التي يساهم بها كل عضو، ما يدفع خبراء إلى التأكيد على أن بلدان جنوب أوروبا هي التي ستستفيد أكثر من تلك الخطة، ما يدفع البلدان الموصوفة بـ"البخيلة" بالتحفظ على الخطة.
ذلك المخطط سيكون النقطة الرئيسية في جدول أعمال اللقاء الذي جمعها، الاثنين الماضي، بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غير بعيد عن العاصمة برلين. ستكون هذا المرة الأولى التي ستلتقي فيها برئيس دولة مباشرة منذ الحجر الصحي الذي فرض التواصل عن بعد بين قادة الاتحاد. ويرى المراقبون أن الدينامية الفرنسية الألمانية ستكون حاسمة في تحديد مآل ذلك المخطط.
أسفرت الأزمة عن الوجه الأوروبي للمستشارة. فقد كانت تعارض فكرة المديونية الأوروبية المشتركة، والتحويل المالي المكثف بين بلدان الاتحاد. واليوم قادت صدفة أجندة الرئاسة الدورية للاتحاد، ألمانيا، إلى تسلم المشعل من كرواتيا، التي ترأست الاتحاد في الستة أشهر المالية.
صحيح أن البلجيكي شارل ميشيل، باعتباره رئيسا للمجلس الأوروبي، هو الذي دعا إلى اجتماع السابع والثامن عشر من يوليو الحالي، من أجل حسم الموقف من خطة الإقلاع، غير أن المراقبين يذهبون إلى أن ميركل الذي تولت بلدها منذ بداية يوليو الرئاسة الدورية، تتمثل بسلطة سياسية ونفوذ أكبر من شارل ميشيل.
تحدثت المستشارة في 8 يونيو/ حزيران الماضي أمام برلمان بلدها، حيث قالت "سنتحمل المسؤولية في وقت يتوجب فيه على الاتحاد الأوروبي أن يواجه أكبر تحد في تاريخه. تولينا الرئاسة في النصف الثاني يشكل للحكومة الألمانية تحديا أكبر".
تعبر عن ارتياحها لبلورة المفوضية الأوروبية لمخطط للإقلاع بقيمة 750 مليار ورو، غير أنها تؤكد على أن الوضعية ليست سهلة، معبرة عن تطلعها إلى سعي جميع بلدان الفضاء الأوروبي للوصول إلى توافق في مستوى الأزمة التاريخية.
تستحضر ما حدث في آخر اجتماع عن بعد للمجلس الأوروبي، حيث لم يتم التقدم في النقاش حول خطة المفوضية الأوروبية، في ظل تحفظ بلدان مثل الدانمارك والسويد والنمسا وهولندا، التي تعارض مساعدة البلدان التي تعتبرها غير ملتزمة بقواعد الصرامة المالية.
ستنتهي رحلتها على رأس المستشارية الألمانية في نهاية 2021، بعد أربع ولايات. سيتولى بلدها الرئاسة بعدما استعادت الكثير من الحظوة التي تتمتع بها لدى الرأي العام الألماني بفضل طريقة تدبيرها للأزمة الصحية، بعدما كانت شعبيتها قد عانت من ردود الفعل داخل حزبها ومن اليمين المتطرف، عندما اختارت فتح الحدود أمام مليون لاجئ في 2015.
لا تراهن فقط على قدرتها على إقناع البلدان التي تنتمي لـ"نادي البخلاء"، بل تستند من أجل الوصول إلى اتفاق في يوليو حول خطة الإقلاع إلى دعم مواطنيها، الذين أضحوا أكثر انفتاحا على الانخراط في نوع من التضامن الأوروبي، مقارنة بما كانوا عليه في فترة أزمة منطقة اليورو. فقد كشف استطلاع للرأي أجرته قناة محلية، قبل أيام، أن 63% من الناخبين يؤيدون خطة الإقلاع الذي بلورته المفوضية الأوروبية.
لم تكن حماسة ألمانيا لخطة الإقلاع ناجمة فقط عن رغبة في إنقاذ بلدان أوروبية متضررة، فقد تأثر اقتصاد القوة الأولى جراء تداعيات الفيروس، ما دفع رجال أعمال ألمان إلى التأكيد على أن إنعاش اقتصاد بلدهم سيكون رهينا بإنعاش اقتصاديات البلدان المتوسطة. فقد صرحت فرانزسكا برانتنر، المتحدثة باسم مجموعة الخضر بالبرلمان، حول القضايا الأوروبية، بأن مصالح ألمانيا ترتبط بمصالح إيطاليا وإسبانيا.
يعتبر فيليب لومبيرتس، رئيس مجموعة الخضر بالبرلمان الأوروبي، أن ميركل تحرص على ألا تتراجع أوروبا في عهدها. فهي تستحضر من يسعون إلى النيل من الحلم الأوروبي، إذ ذهبت عند مثولها أمام البرلمان الألماني في 8 يونيو الماضي، إلى القول إن القوى المناهضة للديمقراطية والحركات الراديكالية والسلطوية تنتظر الأزمات الاقتصادية من أجل استغلالها سياسيا.
ويتصور مراقبون أن ميركل ستلعب دور الوسيط بين دول شمال وجنوب من جهة، وغرب وشرق أوروبا، وهي التي عاشت في أوروبا الشرقية أيام الحرب الباردة. هي لا تؤمن بتلك التقسيمات، فقد صرحت أخيرا بأن كل شخص يجب أن يضع نفسه في مكان الآخر.
لقد كانت توصف بالمستشارة المقتصدة، غير أن الأزمة دفعتها إلى تجاوز جميع القواعد الصارمة، سواء على مستوى العجز أو المديونية، وسعت إلى إبداء سخاء غير مسبوق تجاه البلدان الأوروبية المتضررة. وهي تعتبر أنه إذا كان التضامن يفرض بعض التدابير، فإن المصلحة الأوروبية تقتضي ذلك النهج، حيث ترى أنه في مصلحة بلدان الاتحاد التوفر على سوق أوروبية قوية واتحاد أوروبي أكثر وحدة، حيث تؤكد أن "كل ما هو جيد لأوروبا، يبقى جيدا لنا".
يعتبر مراقبون أن الرئاسة الدورية ستساهم في تكريس البعد الأوروبي في سياسة ميركل التي ستغادر المستشارية في العام المقبل، بعدما وصفت بـ"السيدة لا"، وعرفت بتحفظها تجاه دعم اليونان إلى درجة استقبالها بأعلام نازية بأثينا.
توليها الرئاسة الحالية، يعطيها فرصة، كما يلاحظ مراقبون، أن تواصل ميراث المستشار هيلموت كول، الذي كان قد عين ميركل المتحدرة من أوروبا الشرقية في حكومته في 1991، حيث تمكنت بعد ذلك من أن تسيطر على حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي وتتولى المستشارية على مدى أربع ولايات.
ولم يتردد البعض في مقارنتها بهيلموت كول، الذي حمل نظرة رومانسية لأوروبا، وسعى إلى توحيد الألمانيتين، كما ساهم في الإعداد للعملة الأوروبية الموحدة، بينما اعتبروا أن ميركل لم تكتشف أوروبا سوى في 1990 بحكم تحدرها من ألمانيا الشرقية، بل إنها عندما تولت أمر ألمانيا اهتمت أكثر بالديبلوماسية العالمية أكثر من السياسة الأوروبية.
يؤخذ على المستشارة، البالغة من العمر 66 عاما، ذلك البطء في اتخاذ القرار عندما يتعلق الأمر بالقضايا الأوروبية، وهو يرد إلى تكوينها العلمي كفيزيائية، الذي يقودها إلى التدقيق والتمحيص قبل اتخاذ القرار، بينما يذكر المدافعون عنها بتوجهها الأوروبي بالرجوع إلى تصورها القائم على أنه لا وجود لألمانيا ضمن أوروبا ضعيفة.
يهتم الناس في ألمانيا وخارجها بالكثير من أبعاد شخصيتها. منهم من تجذبه بساطتها في الحياة، ومنهم من تثيره تلك الصرامة الراسخة في الجينات الألمانية، ومنهم من سيراقب كيف ستقود الإنقاذ الاقتصادي في أوروبا، إلى درجة دفعت أحدهم إلى القول إنها ستستحق تمثالا في إيطاليا إذا نجحت في سياسة التعافي الاقتصادي.