تبدأ حكاية "أنتيغون" حيث تنتهي "مأساة أوديب" للمسرحي اليوناني سوفوكليس (496 - 405 ق.م)، أو بالأحرى عندما يغادر أوديب إلى المنفى، ويُدرك حقيقة ما فعله؛ أي أنه تزوّج أمّه جاكوستا بعد أن قتل أباه، فيفقأ عينَيه. وبعد أن يُطرَد من طيبة، يهيم في جميع أنحاء أتيكا، برفقة ابنتَيه أنتيغون وإيزمين. وعندما يصل إلى غابة الأومينيديين المقدّسة، والمحظورة على الدنسين، يُقرّر المجازفة، فيثير غضبهم ويمزّقونه إرباً.
هنا، تُقرّر أنتيغون العودة إلى طيبة، حيث بدأت حرب السبعة ضدّ المدينة، بسبب الخلافات بين أخويها المتحاربين. عندما يصل كريونته، ملك طيبة الجديد وشقيق جاكوستا، يُصدر أمراً بحظر دفن بولينيس، أحد أخوَي أنتيغون، تاركاً جثّته في العراء لتنهشها الكلاب. تعصي أنتيغون أوامر كريونته وتدفن شقيقها الذي "خان" وطنه كما تزعم السلطة، فيأمر الملك بدفنها حيّةً.
في هذه المأساة التي عُرضت لأوّل مرّة في أثينا عام 442 قبل الميلاد، قدّم سوفوكليس مآسي الروح البشرية المتأرجحة بين الواجبات التي يفرضها القانون، وتلك التي تحمل طابعاً أخلاقياً تجاه الأسرة والمجتمع. يبدو أنه كان هناك تضاربٌ حقيقي في القيم أكثر صدقاً وعمقاً ممّا هو عليه الآن، لأن أنتيغون لم يكن لديها أي ازدراء لقوانين المجتمع، كما أنها لم ترغب في عصيان القوى الثابتة في قلبها، ولكنها في الواقع وجدت نفسها في النقطة الحرجة التي تقتضي قراراً صعباً بين مبدأين غير قابلين للعبث على حد سواء. مأساة بكل معنى الكلمة، لم تذهب أنتيغون للبحث عنها، ولم تخطّط لها بوعي.
هذا التضارب بين ما هو قانوني وما هو أخلاقي كان العنوان الأبرز لحكاية قبطانة سفينة "سي ووتش"، كارولا راكيته، التي اخترقت المياه الإقليمية الإيطالية، قبل أيّام، لترسو في ميناء لامبيدوسا بباخرتها التي تحمل على متنها اثنين وأربعين لاجئاً جرى انتشالهم من البحر لأن زورقهم كان على وشك الغرق، ما أثار جدالاً حادّاً في إيطاليا وألمانيا والدول الأوروبية التي وجدت نفسها معنيّةً بالحادثة.
انقسمت الآراء بين من يعتبر القبطانة الألمانية بطلةً إنسانيةً ومن يرى فيها مخترقةً للقوانين، بل و"مهرّبة بشر" و"مجرمةً" بتعبير وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، وهي تهمةٌ قادتها إلى إقامة جبرية في إيطاليا التي تنتهج سياسةً مناهضة للهجرة، وجعلتها تواجه حكماً بالسجن يصل إلى عشر سنواتٍ، قبل إطلاق سراحها.
عقد بعضُ الكتّاب والنقّاد مقارنةً بين أنتيغون سوفوكليس وكارولا راكيته، معتبرين القبطانةَ الألمانية أنتيغون معاصرةً. غير أن هذه المقارنة أدّت إلى نتيجة مغايرة لما رغب فيه بعضهم؛ لأن أنتيغون، التي تحدّت القانون من أجل هدف أسمى، يتمثّل هذه المرّة في إنقاذ حياة اثنين وأربعين مهاجراً، هي في النهاية شخصية إيجابية في الثقافة الغربية.
دارت تلك المعركة بين طرفَين: القبطانة الألمانية ومناصريها، و"القبطان" (يُلقّب سالفيني بهذا الاسم) الإيطالي ومناصروه، بينما ظلّ الطرف الثالث والأضعف، أي المهاجرون، مجرّد خلفيةٍ في تلك المعركة. وكما يحدث بين محورَي قطبَين متضادَّين، كان لا بدّ من الدعوة للفصل بين ما هو قانوني وأخلاقي، وإيضاح متى يمكن انتهاك القانون، ووضع قواعد صريحة وواضحة للسقف الذي يمكن أن يصله إليه هذا الانتهاك ولا يتعدّاه.
وبينما اعتبر كتّابٌ إيطاليون أن ما حدث كان "مؤامرة" أوروبية للنيل من التركيبة الديموغرافية الإيطالية، قال الكاتب الإيطالي روبرتو سافيانو: "لقد أطعتِ يا كارولا قانون نفس الرجال الذين تمكّنوا قبل أكثر من سبعين عاماً من دحر من يرفعون رؤوسهم اليوم، ورميهم في الثقب الأسود للتاريخ. شكراً لك، لأنك ألقيت بجسدك في هذه المعركة الحضارية".
كارولا والمهاجرون الذين التقطتهم من البحر، ظلّوا طيلةَ أسبوعَين حبيسي الباخرة في عرض البحر، قبل أن تقرّر اختراق المياه الإقليمية الإيطالية والاتجاه نحو ميناء جزيرة لامبيدوسا؛ حيث كان ينتظرها حشد من رجال الأمن وموالون للوزير - "القبطان"، والذين أشبعوها، أمام عدسات الكاميرا، بشتائم وصلت إلى حد التهديد باغتصابها!
لم يصدر عن "أنتيغون المعاصرة" أي ردّ فعل قوي، إذ بقيت هادئةً طوال الفترة التي استغرقتها الشرطة في تفتيش الباخرة ومصادرة الوثائق في قمرة القيادة، ومن ثم القبض عليها بتهم متعدّدة. وكان واضحاً أنها تأبى افتعال الإحباط، رغم أن ذلك ردّ فعل إنساني. العزم والتصميم اللذان تحركت بهما كارولا، أكّدا نيتها في البحث عن موقف مثالي وصادم، يجعل منها بطلةً لجيل بدأ يتململ من عبث السياسيّين.
قبل أن تتبنّى كارولا راكيته قضية المهاجرين وتتحدّى وزير الداخلية الإيطالي، كانت قد مرّت بتجارب عديدة زادت من قدرتها على خوض مثل هذه المجازفات، فبعد أن أنهت دراساتها حول الحفاظ على البيئة في "جامعة إيدج هيل" بأطروحة حول طيور النورس، استلمت بين 2011 و2013 دفّة القيادة في كاسحة جليد في القطب الشمالي لحساب المؤسّسات الألمانية التي تُعنى بجغرافية المحيطات. وفي سنّ الخامسة والعشرين، كانت الضابط الثاني على متن سفينة "أوشيان دياموند".
وفي السابعة والعشرين، تولّت المنصب نفسه على سفينة "آرتيك صن رايز" التابعة لـ"غرين بييس"، وفي الثلاثين من عمرها، كانت تقود مراكب استكشافية في أقصى شمال الكوكب... في جزر سفالبارد في البحر الجليدي القطبي، وعملت أيضاً مع أسطول مسح القطب الجنوبي البريطاني.
لم تُدفَن كارولا راكيته حيّةً مثل أنتيغون، فقد أطلقت السلطات الإيطالية سراحها بعد بضعة أيام من الإقامة الجبرية. غير أنَّ ما يدعو إلى التأمّل هي تلك العبارات التي صاغت من خلالها مفهوم الانتماء إلى دولة قوية: "كانت حياتي سهلة، وقد تمكّنتُ من ارتياد ثلاث جامعات. أنا بيضاء وألمانية، ووُلدت في بلد غني وبحوزتي جواز سفر ملائم. عندما استوعبتُ كل هذا، شعرتُ بالتزام أخلاقي لمساعدة من لم يمتلك نفس فرصي".
* كاتب سوري مقيم في ميلانو