أنتم أيضاً طلعت ريحتكم

03 سبتمبر 2015

لبنانيات يشاركن في مظاهرات "طلعت ريحتكم" (29 أغسطس/2015/ أ.ف.ب)

+ الخط -

خرجت المرأة اللبنانية، طوال الأسبوع الماضي، إلى شوارع بيروت متظاهرةً، لتفضح فساد الساسة الذي تكوم في أكداس من القمامة، فإذا بها تفضح، من حيث لا تدري، نوعاً آخر من الفساد الذي تكدس في أدمغة بعض الرجال العرب تجاه النساء عموماً، على شكل قمامة أيضاً.

ففي تلك المظاهرات التي رفعت شعار #طلعت_ريحتكم، احتجاجاً على الفساد الحكومي الذي لم يستطع أن يعالج مشكلة القمامة في شوارع لبنان، شاركت المرأة اللبنانية بقوة، ومن مختلف الأحزاب والتيارات السياسية، جنباً إلى جنب مع الرجل. لكن صور النساء وحدها هي ما اهتمت به الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي العربية بطريقة غير طبيعية، ولا تتناسب مع حجم المظاهرات، ولا مع موضوعها. كان الهدف الأساسي الذي ركزت عليه أغلبية المعلقين شكل هؤلاء المتظاهرات غير المألوف لكثيرين في المجتمعات العربية المحافظة، وحسب.

مرة أخرى، تتحول المرأة، بغض النظر عن النشاط الذي تقوم به، إلى مجرد سلعة أنثوية في مقابل ذكورية الرجل الشرقي. ومرة أخرى، تتعزز صورة المرأة اللبنانية المغايرة لصور نسائية عربية كثيرة معتادة، باعتبارها نموذجاً للانفتاح بصورته السلبية، وليس الإيجابية أو الطبيعية. فشكل هؤلاء الفتيات والنساء اللبنانيات عموماً هو المعتاد في المجتمع اللبناني، ولم تتعمد المتظاهرات أن يلبسن ملابس خاصة للمظاهرات، كما يظن بعضهم، حتى يصرن هدفاً لعدسات الكاميرات وتعليقات المعلقين الخادشة للحياء غالباً، خصوصاً من فئة تقدم نفسها على أنها حامية حمى المرأة، والمدافعة عن حقوقها في كل شيء، بما فيها حقها في ارتداء ما تختاره من أزياء من دون وصاية من أحد، باسم العادات أو التقاليد أو الدين مثلاً.

وفي وقت تحاول فيه هذه الفئة من الرجال العرب المتدثرين بشعارات الليبرالية إثبات تمايزهم عن الإسلاميين في الموقف تجاه المرأة بالذات، نجد أن الفريقين توحدا في تلك النظرة، في حالة فارقة من أحوالهم المشتركة، وإن بصورتين مختلفتين شكلاً. ففي وقت ينتقد فيه الإسلاميون، ومن هم في حكمهم، النساء لخروجهن إلى المظاهرات، ويزداد النقد ويتضاعف لطريقتهن في اللبس، إن كان مما لا يعجبهم، ولا يتوافق مع نظرتهم الفكرية، أو الدينية، بحسب مفهومهم الخاص للأمر، ينظر الليبراليون، ومن في حكمهم أيضاً، إلى النساء أنفسهن نظرة لا تختلف، في نتيجتها، عن نظرة زملائهم الذين يختلفون معهم في أغلب الأفكار عادة، فيتخذون من صور تلك النساء مادة للغزل غير البريء، مركزين على ملابسهن أيضاً. وعلى الرغم من أنهم لا ينتقدون هذه الملابس بشكل مباشر، إلا أنهم يفعلون ذلك، عندما يجعلونها رمزاً للانفتاح، ودلالة عليه، ووسيلة للتحرش المستظرف، في ما يكتبون من تعليقات.

فوجئت بأحدهم ممن لم يترك شاردة ولا واردة من قضايا التحرّش ضد النساء في بلده الخليجي إلا وأثارها، مطالباً بحرية المرأة في اختيار أسلوبها في العيش، وطريقتها في ارتداء الملابس، ما أثار إعجاب كثيرين، وأنا منهم، به وبطروحاته، لكنه ما إن انتشرت صور المتظاهرات اللبنانيات، بالجينزات المشقوقة والقمصان الضيقة والمكشوفة، حتى تحول إلى متحرّش إلكتروني فعال، بل إنه نشر إحدى هذه الصور في حسابه التويتري، مبدياً رغبته في الذهاب فوراً إلى بيروت، والمشاركة في المظاهرات، في إشارة منه إلى هدفه الظاهر من ذلك بلا خجل، ولا حياء، من تناقضه العلني.

لست ضد تركيز الصحافة، مثلاً، على ظاهرة ظريفة واستثنائية من ظواهر أي نشاط مجتمعي هنا أو هناك، فهذا جزء من طبيعة الصحافة عادة، لكنني ضد أن يتحوّل هذا التركيز الصحافي إلى سلوك مجتمعي، يتخذه بعضهم ذريعة للتعبير عن نظرته الحقيقية الخافية وراء ادعاء المثاليات.. وآن الأوان لنقول لهؤلاء: أنتم أيضاً طلعت ريحتكم.

 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.