أنباء مقتل محمد منصورة... قصة أحد رموز نظام الأسد

19 يونيو 2016
ابتسامة منصورة كانت تكفي لتعذيب أي موقوف(سيرغي بوبيليف/ Getty)
+ الخط -
تتواتر أنباء عن مقتل رئيس شعبة الأمن السياسي التابعة للنظام السوري، رئيس فرع الأمن العسكري في القامشلي، اللواء محمد منصورة، في ظروف غامضة. وتفيد بعض المعلومات بأنه تم رمي منصورة من مبنى مرتفع حيث أصيب بجروح بليغة ويخضع للعلاج في مشفى العثمان باللاذقية، في حين ترجح مصادر أخرى أن يكون قد فارق الحياة.

وإذا صحت هذه الأخبار، يكون منصورة قد انضم إلى قائمة رجالات النظام الذين يجري التخلص منهم في إطار صراعات مراكز القوى الداخلية أو الحسابات الخارجية، والتي غالباً ما تستدعي دفن بعض الأسرار، والتخلص من الشهود عليها، وبذلك يكون منصورة قد لاقى المصير نفسه الذي سبقه إليه رستم غزالي، وجامع جامع، وآصف شوكت، وهشام اختيار، وغازي كنعان ومصطفى التاجر، وغيرهم من الرموز الأمنية للنظام السوري، الذين لعبوا أدواراً مهمة خلال العقود الماضية.

بنى منصورة "مجده" الأمني والسياسي خلال عمله طيلة نحو ربع قرن كرئيس لفرع الأمن العسكري في القامشلي، أقصى شمال شرق البلاد، حيث الوجود الكردي القوي، ما جعله المهندس الأول لمجمل علاقة النظام بالملف الكردي طوال العقدين الماضيين، سواء بشقه الداخلي المتعلق بالأحزاب الكردية وقضية التجنيس والعلاقة بين العرب والأكراد في منطقة الجزيرة، أم بشقه الخارجي المرتبط بالعلاقة مع تركيا، ودعم نظام حافظ الأسد لـ "حزب العمال الكردستاني"، واحتضان زعيمه عبد الله أوجلان إلى حين طرده عام 1998 إثر ضغوط وتهديدات تركية. وفي السنوات الأخيرة، عمل منصورة مستشاراً أمنياً لما تسمى "خلية إدارة الأزمة" مع بداية الثورة في عام 2011.

ولد محمد منصورة عام 1950 في قرية عين قبيّة، التي باتت اليوم أحد أحياء ناحية حمّام القراحلة التابعة لمنطقة جبلة، لوالده الشيخ أحمد منصورة الذي يعتبر أحد الرموز الدينية والاجتماعية لعشيرة "القراحلة" في منطقة ريف جبلة. على غرار معظم شبان منطقته من الطائفة العلوية، التحق منصورة بالجيش، وحين وصل إلى رتبة نقيب في نهاية سبعينيات القرن الماضي، عين رئيساً لمفرزة الأمن العسكري، ليخرج من المدينة بعد ربع قرن برتبة لواء، وقد تحولت المفرزة إلى فرع.

منذ البداية، حرص محمد منصورة خلال عمله رئيساً لفرع الاستخبارات العسكرية في منطقة الجزيرة السورية، ومركزه في مدينة القامشلي، على تقديم نفسه لأهالي المنطقة بوصفه واحداً منهم، حريصاً عليهم، وينقل همومهم للقيادة في دمشق.

وبغية التغلغل في مجتمع الجزيرة المختلط عرقياً ودينياً وثقافياً، عمد منصورة إلى بناء شبكة من العملاء والمخبرين بين مختلف الأوساط والمكونات السكانية في المدينة، من عرب وأكراد وآشوريين، معتمداً أساليب جديدة وقتها، عبر فتح باب التوظيف المدني في الفرع، وتعيين عدد كبير من المخبرين في وظائف وهمية، مثل ورشات الميكانيك والبناء والدهان، لتبرير دخولهم إلى الفرع وتسليم تقاريرهم في وضح النهار.

واستطاع منصورة بناء شبكة من العلاقات الاجتماعية في الجزيرة التي أطلق عليه أهلها لقب "أبو جاسم" رغم أنه بقي أعزب، ووطّد علاقته مع كل الوجهاء والأشخاص الذين يمكن استخدامهم من شيوخ عشائر ورجالات دين وأصحاب أعمال ومصالح، مستخدماً الترغيب والترهيب.


ورغم عدم وجود قانون للأحزاب خلال فترة حكمه، إلا أنه كان يدير جميع ملفات القوى والأحزاب الكردية التي أتاح لها الظهور في القامشلي، بالرغم من تعارض برامجها أحياناً مع سياسة النظام السوري، مطمئناً بأن خيوط كل تلك القوى والأحزاب هي بيده في النهاية، حيث يقدم المسؤولون فيها تقاريرهم إليه بشكل منتظم، ويصل كل ما يصدر من دورياتهم ونشراتهم لمكتبه قبل توزيعه.

ولم يقتصر تحكم منصورة بعمل القوى الكردية في الجزيرة السورية فقط، بل امتدت إلى العراق وتركيا أيضاً، وخاصة في ما يتصل بـ"حزب العمال الكردستاني"، وملف المعارضة العراقية قبل سقوط نظام صدام حسين، حتى بات رأيه مرجعاً موثوقاً لدى مكتب الأمن القومي والقيادة السياسية في دمشق بشأن هذه الملفات. وطيلة تلك الفترة، كان منصورة هو الحاكم الفعلي والمطلق لمنطقة الجزيرة السورية التي تعتبر عماد الاقتصاد السوري بما تحتويه من نفط وزراعة.

ويقول العارفون بخفايا الأمور إن ثمة رجل آخر كان يقاسم محمد منصورة مسؤولية الإشراف على الملف الكردي ولو جزئياً، وهو اللواء مصطفى التاجر، الضابط الأكثر دموية في تاريخ شعبة الاستخبارات العسكرية، ونائب رئيس الشعبة، والذي تمت تصفيته مسموماً في مزرعته بمنطقة المنصورة شرقي حلب في شهر أغسطس/آب 2003، بسبب إفشائه معلومات لوكالة الاستخبارات الأميركية عن وجود أموال صدام حسين في سورية، وفق بعض المعطيات.

وخلافاً لما كان عليه وضع شعبة الاستخبارات العسكرية تحت حكم علي دوبا، منذ عام 1974 وحتى تسريحه مطلع عام 2000، كُلّف منصورة بمهام أكثر تعقيداً، تتصل بإدارة الملفات المشار إليها، بعيداً عن القمع اليومي المباشر بمعناه التقليدي، الذي أنيط في هذه المحافظة بإدارة أمن الدولة.

بعد انتهاء خدمته في منطقة الجزيرة، تولى منصورة رئاسة (فرع فلسطين) بدمشق، الذي بقي فيه حوالى عامين خلفا للواء مصطفى التاجر، ثم انتقل خارج ملاك شعبة الاستخبارات العسكرية معاوناً للواء غازي كنعان الذي عين وقتها رئيسا لشعبة الأمن السياسي في وزارة الداخلية، إذ كانا حليفين داخل ذلك الجهاز على مدى عقدين من الزمن. وحين تم تعيين كنعان وزيراً للداخلية، كلف منصورة برئاسة الشعبة السياسية حتى تولاها رسمياً بموجب مرسوم جمهوري.

وتمكن منصورة من بناء ثروة جيدة من خلال علاقاته المالية مع مهربي التبغ والسلاح والمواشي، إضافة إلى تورطه في عمليات فساد تتعلق بالأراضي الزراعية. ويصف البعض منصورة، الذي دعاه حافظ الأسد ذات يوم بـ"ملك الجزيرة"، بالدهاء والخبث لأبعد مستوى، حيث لم يرد أنه ضرب أحداً بيده، لكن تكفي ابتسامة منه لأي عنصر أمني حتى يتولى تقديم ضيافة فروع الاستخبارات المعهودة للأشخاص الموقوفين.