"وين أزفّك وين قلّي يا حبيبي"، نداء وصراخ لم تتوقف الأم المكلومة عن ترديده وهي تتلقى نبأ استشهاد فلذة كبدها ياسر حمدونة (40 عاما) صبيحة يوم الأحد، داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي نتيجة الإهمال الطبي وإصابته بسكتة دماغية، بعدما أمضى 13 عاماً من حكم بالسجن المؤبد بتهمة الانتماء إلى كتائب شهداء الأقصى، الذراع العسكرية لحركة فتح، ومشاركته في عملية قتل لمستوطن إسرائيلي عام 2003.
في بلدة يعبد جنوب مدينة جنين إلى الشمال من الضفة الغربية المحتلة، مسقط رأس الشهيد ياسر حمدونة، تجمع أهالي البلدة في محيط منزل عائلته لمواساتهم، إلا أن هذه الجموع لم تستطع أن تخفف من صراخ والدته، والتي أصابها انهيار عصبي، قدمت لها الطواقم الطبية العلاج ميدانياً أكثر من مرة، لكنها لا تتوقف عن الصراخ ولسان حالها يردد "وين أزفك وين يا حبيب أمك".
نجمة حمدونة، والدة الشهيد ياسر، وهي المعروفة لدى غالبية الأسرى الفلسطينيين، إذ لم تكن تفوت زيارة ولا اعتصاماً ووقفة تضامنية مع الأسرى، إلا وتحمل معها صورة فلذة كبدها وتصطحب زوجة الشهيد للمشاركة ورفع صور المعتقل المحكوم بالمؤبد. هذا الأمل النابع من قلبي أمه وزوجته أطفأ وهجه فجأة خبر عاجل على وسائل الإعلام، بل أصاب العائلة كاملة بانهيار عصبي.
اليوم زُفّ ياسر شهيداً في مسقط رأسه يعبد، وكانت أمه على رأس المشيّعين تحمل نعشه بقوة وصلابة المرأة الفلسطينية، على الرغم من الألم الذي يعتصر داخلها. أما شقيقه، فلم يتمالك نفسه عند رؤية الجثمان، وظل يقول وسط بكائه "راح الغالي مات، راح الغالي غاب".
"ياسر كان عظيماً خارج السجن وداخله، كان متهوّرا عندما تعرفنا عليه أول دخوله السجن، ولكننا بعد فترة اكتشفنا أنه كان الأكثر جدارة بكل شيء منا، لقد كان متهورا في حبه وعطائه وكل ما يستطيع تقديم تجاه الوطن"، هذا ما قاله عنه الأسير المحرر ناصر بدران، من قرية عين سهلة بالداخل الفلسطيني المحتل عام 1948.
يقول بدران في حديث إلى "العربي الجديد": "عشت مع ياسر فترة داخل السجن، كان مبادرا في كل شيء، قلّما تجد مثله في السجون، وعلى الرغم من عصبيته الواضحة، إلا أنه كان حنونا، وعاشقا لأمه التي تزوره بشكل مستمر، وإذا غابت عن الزيارة يعود كشعلة النار التي لا تستطيع الاقتراب منها لدرجة العصبية والقهر التي وصل إليها بسبب منع الاحتلال لها من الزيارة".
كذلك الأمر بالنسبة لزوجته وطفليه أدهم (15 عاما) ومحمد (13 عاما)، واللذين كان يحبهما بشكل كبير، وقد تعلق بهما كثيرا حتى وإن تعرف عليهما من خلف زجاج غرف الزيارات بالسجن، فرح لرؤية طفليه اللذين سيكبران ويحملان اسم والدهما الأسير الشهيد المناضل.
اعتقل حمدونة عام 2003 إبان انتفاضة الأقصى الثانية، فقد كان من عناصر "كتائب شهداء الأقصى"، وكان من المشاركين في العمليات الفدائية ضد الاحتلال، خصوصاً أنه لم يقف مكتوف الأيدي عندما حوصر مخيم جنين، فقد كان يمد العائلات بالمؤونة وكل ما يستطيع تقديمه.
يقول الأسير المحرر، خضر عدنان، في حديث لـ"العربي الجديد": "الشهيد ياسر خاطر بنفسه كثيراً أيام اجتياح وحصار مخيم جنين عام 2002، فكان يخرج من منطقة برقين غربي جنين إلى وادي برقين القريب ليصل إلى المخيم حاملاً معه ما استطاع ليقدمه للأهالي المحاصرين هناك".
وكانت تهمة الشهيد ياسر أنه قتل مستوطنا في مستوطنة "مابو دوتان" المقامة على أراضي بلدته يعبد غربي المدينة، وحين اعتقل حمدونة على إثر قتل المستوطن، تعرض للضرب المبرح على صدره من قبل ما يسمى بـ"قوات النحشون"، وهي قوة تابعة لإدارة مصلحة السجون وتعتبر قوة قمع للأسرى داخل السجون، ولها العديد من حالات الاعتداء بقسوة على أسرى وإصابتهم بمشاكل صحية على إثر ذلك.
ياسر كان أحد الضحايا من اعتداء تلك القوات، فأصيب بمشاكل صحية عديدة ومزمنة منذ ذلك الحين، علاوة على إصابته بمشاكل في القلب وضيق في التنفس، وتعرضه لإهمال طبي، إذ إن قلة العلاج وعيادة السجن لا تقدم سوى فحص روتيني، ولو ذهب الأسير إلى العيادة بأي وجع لأعطوه قرصاً مسكناً فقط.
بدران، زميل الشهيد ياسر في السجن سابقاً، أشار إلى أنه "في حال تقرر إجراء عملية جراحية للأسير، فبعد المماطلة وتأخير الموعد لأسابيع وأشهر تكون إجراءات نقل الأسير صعبة للغاية، فينقل داخل البوسطة الحديدية (مركبة لنقل الأسرى) التي لا تصلح لنقل الأسير المعافى، فكيف تنقل أسيراً مريضاً؟".
داخل سجون الاحتلال أسرى يعانون من أمراض صعبة كالسرطان والقلب وأخرى خطيرة، إذا لم تتم معالجتهم وفق ظروف صحية ونفسية مريحة سيكون مصيرهم نفس المصير الذي لقيه الشهيد حمدونة، وسيعودون لأهلهم جثثاً هامدة محمولين على الأكتاف.