أمي بين الموت والفرح

22 مارس 2015
مساندتها في الحزن (Getty)
+ الخط -
وقفت أمي إلى جانب أختي يوم زفافها أمام عدسات الكاميرا لالتقاط الصور. لم تمنعها أجفانها المتوّرمة من بكاء مرير، قبل يوم واحد من موعد الزفاف من مشاركة ابنتها يوم فرحها. كان جدي مريضاً يعاني في فراشه، إثر وقوعه المفاجئ الذي صادف أوّل فرحة في بيتنا.

جلست أمي إلى جانب أبيها ليلة سهرة الزفاف، ورفضت مرافقتنا إلى الحفلة، قالت لنا: "روحوا انبسطوا، أنا ما بقدر أترك بيي. إذا صرلوا شي، بعيش بذنب حياتي كلها، ما إلو غيري بهالدني خلليني حدّو". كان قلب أمي ذلك المساء يتمزّق بين أبيها الذي يحتضر وابنتها التي عجزت عن مشاركتها فرحتها.

ذهبنا وتركناها وحيدة مع أب يحتضر. لم أدرك وأنا في ذلك السن معاناة أمّي، وغاب عن بالي حجم التضحية التي قامت بها، رافضة تأجيل زفاف أختي. كنّا نغنّي ونرقص بينما كان جدّي ينازع بين الحياة والموت، وأمّي تشهد مغادرة روح أبيها لجسده. بقي جدّي جثة هامدة باردة بين يديها.

صرخت أمي وحدها أمام رهبة الموت، وتردّد صدى صراخها في أرجاء المنزل. بكت بحرقة، وأنهك الألم قلبها الجبّار. هدأت وصمتت وراحت تتأمّل وجه أبيها الذي لوّنه شبح الموت بالأصفر. بقيت على حالها حتى بزوغ الفجر. لم تتّصل أمي بأي منّا. لم تشأ سلبنا فرحة تلك المناسبة. انتهت السهرة وعدنا. دخلنا المنزل وأصواتنا تخترق هدوء الفجر.

لم تخرج أمي من غرفتها لملاقاتنا كعادتها بابتسامتها الملائكية. توّجهنا نحو الغرفة. نظرت إليها فرأيتها راكعة على قدميها بالقرب من جدي. ولأوّل مرّة أرى وجه أمي أشبه بتمثال ضاعت ملامحه وتصارعت عليه جيوش القهر حتى نالت منه. لم ينبس أي منّا بكلمة، تسمّرنا في أرضنا نترقّب صوتاً أو حركة تصدر عن أمي. لحظات مرّت كدهر عليّ. لا أدري لماذا شعرت فجأة بالخجل من فستاني المنمّق والماكياج. قطع أنين أمي وميض الذنب، وقالت: "مات جدكن، بيي مات".

لا أذكر يومها أنّني بكيت أو أبديت أي ردّة فعل، جلّ ما أذكره أصوات إخوتي وهم يحاولون مواساة أمي. لم أقترب منها ولم أعبّر عن أسفي أو حزني، جمدت وتركت الغرفة. فشلت بالتخفيف عنها، حتى دموعي هربت من مقلتي. رمقتها تراقبني إذ لم يهتز لي جفن، وشعرت باستغرابها وألمها، فأنا الفتاة الحسّاسة التي تبكي على فيلم حزين وتطير من الفرحة على أتفه الأمور، لم تُبد أي انفعال على وفاة جدّها وحرقة أمها. ساعات قليلة فصلت بين السهرة والدفن، بين ثياب الفرح والحداد، بين الموت والزواج.

دفنت أمي جدّي يوم السبت، واجتمعت نساء القرية حولها، وهنّ يكرّرن عبارات ترّسخت في رأسي لليوم: "غطّوا موتاكم وطلعوا عرايسكن، ويللا قومي حضري حالك لإكليل البنت هيدي صلاة مش حفلة رقص".

لم تخذل أمي أي منّا طيلة حياتها، لطالما تغلّبت على الوجع الذي نهش بروحها خلال حياتها التي لم تخل من الصعاب، وناضلت من أجلنا كلّما خسرنا في لعبة الحياة. أمّا أنا، فلا أغفر لذاتي يوم وفاة جدّي. أيّام مضت حتّى تحرّرت دموعي من قبضة الألم الذي بلغ مستوى لم تعهده روحي المراهقة التي تأرجحت بين الموت والفرح.
دلالات
المساهمون