يمكن تشبيه العمل الأدبي بشاحنة، على ظهرها حمولة، أو بلاطة كبيرة، ليست بالضرورة ملساء. على هذه الشاحنة تتحرك الشخوص وتتطور، ومنها تنتشر حبالٌ، نحو المجتمع والتاريخ والسيكولوجيا أحياناً. ولكل شاحنة حصتها من الحمولة.
بعض الشاحنات تكون رشيقة رغم حمولتها الواسعة، وأخرى تسير ببطء شديد لتعثُّرِها بفراملها. الشاحنة تحرّكها اللغة. والتقنيات المستعملة قد تضاف إما إلى المحرّك لتعزّز من عمله، أو إلى الفرامل التي يحدث أن تخرج عن سيطرة السائق/ الكاتب. الأمر الذي ينطبق على الأعمال الروائية بشكل خاص.
في هذا السياق، يمكن القول إن رواية الكاتب السوداني أمير تاج السر، "اشتهاء" (دار الساقي)، أشبه بشاحنة محملة، إضافةً إلى الشخوص وتاريخها، بالاستعارات والتشابيه، التي لا يمكن تجاهل الجماليات المتولدة عنها، والتي تضاف إلى صحن اللغة عموماً. إلا أن "اشتهاء"، تُنزِلُ في ما تنزل، في أحيان كثيرة، القارئ عن حمولتها لتتركه وحيداً مربكاً على طريق اللغة المضبّبة.
هي حكاية امرأة واحدة، اسمها حورية المصلح، أو حورية الحضرمية. يشبه قلبها دفتراً لقصص الحب، من دون أن يعرف السكينة يوماً. تظل تحمل ولاء صارخاً له، متقدمة به على ما خلّفته السنوات عليها، وعلى الوحدة، متمسكةً بخيوط أنوثتها وما تبقّى من جمالها الأخّاذ، راسمة بذلك صورتها في مصائر رجال أحبّتهم وبادلوها الحب بدورهم.
مقابل صوتها هذا، كأنثى مفردة؛ يضع تاج السر بين أيدينا نُتَفاً من سير أولئك الرجال، أزواجها، الذين قذفتهم الخيبة بعيداً، إما في مجهول، أو ظلٍ، أو جنون، أو عجز أو موت.
هذه المعادلة تعمل كميزان تتأرجح كفّتاه لصالح الحضرمية دوماً. إنه انتصار لا تعلنه الرواية صراحةً، وإنما تترك للقارئ تلمّسه؛ أولاً، من خلال تضمين سير أزواج الحضرمية في سيرتها؛ وثانياً، عبر إحيائهم مؤقتاً قبل إعلان أفولهم مع كل فصل من الرواية. يطلّ هؤلاء كدمى من ورق بعد معركة، مهشّمين، للاستدلال على سيرة الحضرمية. بذلك، يبدون أشخاصاً ثانويين، تتقدّم حياتهم أو تتراجع لتضيء على السيرة الأساس لحورية.
من هنا، تحمل هذه المرأة سلطة، حتى على الروائي نفسه، لا على الشخصيات المنشودة وحسب (الأزواج، البائع شاطر، الخادم غشيم الكرو، المدرّس سمارة). إذ تمثّل المحور الذي يحرّك تاج السر لغته حوله، بصبر لا يكلّ، وبمشقة أحياناً. لذلك، يلامس الروائي، وفي كل شخصية يقرِّبها منا، البيئة الاجتماعية والظرف السيكولوجي المولّدين لهذه الشخصية، من دون أن يجهد في إقناعنا بعمق مكوّنها من عدمه.
بدخوله في هذه الشخصيات، ثم خروجه منها، سيعزز تاج السر من وحدة أسلوبه، متشدداً فيه. فيفتح في الوقت عينه ممراً، بين بلدة فقيرة في الشمال السوداني، تشكّل سينوغرافيا الحاضر، وبلدات ومناطق أخرى، بعيدة وقريبة، ستلفظ الماضي الجميل بعاداته، ورموزه الثقافية والغنائية وموضته وأصواته، متمّمةً سينوغرافيا زمن آفل.
إنه عبور مزدوج، بين الشخصيات مرة، وبين مسرحين للزمن مرة أخرى. لكنه عبور لا يسعف الكاتب لتعزيز ديناميكية السرد، بل بالكاد ينقذ الرواية من السقوط في فخ الزخرفة اللغوية والمضاربات في العبارة، التي يقيمها تاج السر لوصف فكرة واحدة أو سرد خاصية إنسانية لإحدى الشخصيات.
لا يسعى الكاتب خلف جملة يريدها أن تكون "ممتازة"، تحمل المجاز والمعنى وكل أنواع الاستعارة والتشبيه، وتبوح في الوقت عينه بكل شيء؛ بل يسعى خلف المستوى الأرفع من جمالية اللغة. ذلك ما يدفعه أحياناً إلى أن يدير ظهره للسرد الطري والسلس. فبساطة السرد ليست عيباً في الرواية، وسلاسته ليست انتقاصاً من أدوات الكاتب اللغوية والفكرية، كما أن انسيابه لا يقلل من تماسك النسيج الروائي.
رسمة تاج السر المنهمكة بصناعة جملة ضاجّة بالتقنيات، تترك أثرها السلبي على إيقاع الرواية الذي يتحول بطيئاً، حد التجمُّد، ما يصعِّب على القارئ إمكانية التنقل بين فصول "اشتهاء" بتشويق. هكذا، يصير القارئ ملزماً ببذل مجهود لتذكُّر حبل السرد من جهة، والطلوع من حُفَر اللغة المنصوبة على هذا الحبل من جهة أخرى، والتفاعل عاطفياً مع كل عبارة جميلة ترد.
كذلك فإن الاعتناء المبالغ فيه باللغة، يترك أثره السلبيَّ على الشخوص، فتاج السر، وهو يصفهم أحياناً، يزجُّهم في ضباب عبارات غير واضحة، وتشابيه التفافية على المعنى، تحيّد الشخصية عن كينونتها، وتنحرف عن ميزاتها الإنسانية. هذا يقود إلى القول إن تاج السر، برفعه اللغة، يرفع من سلطتها على شخصيات روايته ويحرفها عن الخط الدقيق المفروض أن تكون عليه.
شغف أمير تاج السر بالأساطير والثقافات المتنوعة التي استوطنتْ السودان، واهتمامه بنسج عوالم غامضة، حلميّة وخرافية لشخوصه، والإيمان بالماورائيات، والبحث عن مواضع القوة ولجم كل صوت معاكس لصوت الجماعة/ القبيلة.. كل ذلك يجعل من الواقعية السحرية خياراً متجانساً في عمله الجديد.
غير أن مزجه بين المتخيل والواقعي، لا يخلو من ارتباك، بسبب ابتكاره مشهديات محيِّرة لا تعمل في الرأس، كقوله مثلاً: "ينام على برميل متدحرج دون أن يسقط"، أو "سد ثقبين في أذنيها بالإسمنت والحصى المجروش وهي نائمة".
إنها فانتازيا تبلغ مصاف مبالغاً فيها حتى تفقد وظيفتها وتخرج عن السياق الدرامي لتصبح محل استفهام لدى القارئ.