اختتم المخرج القازاقستاني أمير بايغازين ثلاثيته السينمائية بعرض جزئها الأخير "النهر" (2018) في قسم "آفاق (أوريزونتي)" في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، الذي فاز فيه بجائزة أفضل مخرج.
في "النهر"، يُصوّر بايغازين العلاقات القاسية والعنيفة بين أب وابنه المراهق، المكلّف رعاية أشقائه الأربعة في عملهم اليومي في المزرعة. حياته تشهد تغييرًا كبيرًا مع وصول ابن عمّه صاحب الشخصية الغامضة، الذي يُعرّفه على إغراءات العصر، المتمثّلة في التكنولوجيا المتناقضة كلّيًا مع طبيعة الحياة البدائية التي أراد الوالد فرضها على أولاده الخمسة.
أغوى أمير بايغازين النقّاد عند عرضه "دروس في التناغم" (أول جزء من الثلاثية) بكادراته الرائعة وقدرته على السرد بصريًا. يبدو أن الآمال المعقودة عليه حينها لم تكن وهمًا، إذ أنّ جديده يواصل إدهاش أنصار السينما التي لا تملّ من التجريب. ففيه، يحاول المخرج الشاب (1984) اقتحام مناطق غير مستكشفة في الطبيعة البشرية، وتقديم تنويعات مختلفة لمأساة القمع.
بعد عرض "النهر" في قسم "أوريزونتي"، التقت "العربي الجديد" بايغازين في الحوار التالي:
ـ كنتُ منشغلاً بإتمام هذه الثلاثية التي بدأتها مع "دروس في التناغم" المُقدّم عام 2013 في برلين، كما ذكَرْتَ. ثم أنجزتُ الثاني بعنوان "الملاك الجريح" عام 2016، والآن "النهر". استغرق الأمر هذا الوقت كلّه.
(*) كيف تلخّص فكرة هذه الثلاثية؟
ـ لا أعرف كيف أشرحها لك. عادةً، أنصتُ إلى الدافع الذي في داخلي وأقتفي أثره. هذه الثلاثية متأتية من هذا الدافع الذي يسكن داخلي منذ أعوام. لعل هذا هو الشرح الوافي. عمومًا، أميل إلى أسلوبٍ "طبيعي" في العمل.
فكرة الثلاثية جاءتني بشكل غريب ومفاجئ. في أحد الأيام، كتبتُ 5 أسطر فقط لا غير على ورقة. ظللتُ أراقب الورقة التي أمامي فترةً طويلة، ربما تبلغ عامًا ونصف العام. لطالما قاومتُ فكرة إنجاز فيلم عن العنف. كنتُ أمرّ في مرحلة عصيبة من وجودي على هذه الأرض، فتخيّلتُ أنّ إنجاز عمل ينطوي على قدر من العنف سيزيد من سوء حالتي. ثم حدث أن رفَضَت شركة إنتاج أحد سيناريوهاتي، فقلتُ لنفسي لعلّه آن أوان العودة الى هذا الفيلم.
عندما باشرتُ التصوير، أعلنتُ لفريق العمل نيتي على النحو الآتي: "أرغب في فيلمٍ عن العنف، من دون أن يُطوّر طاقة العنف النائمة في أعماقنا". وددتُ سينما تشعرِكَ بالراحة لدى مغادرتك الصالة، كي تحسّ بعدها بشيءٍ يُحرّر روحك. ما كان يهمّني فعليًا ليس إظهار الصراع الخارجي، بل ذاك الحاصل في قلب الإنسان. أعني الصراع الذي في داخل كلّ واحد منّا، بين الوحش والكائن الآدمي القادر على الحبّ والتسامح. الشرّ والخير كما الليل والنهار، متكاملان. حتى في عروقنا يجري نوعان من الدمّ: الكريات البيض والكريات الحمر.
أنا ضد العنف بشكل مطلق. ذات مرة، قال جون لينون: "كفّوا عن المحاربة، وأعطوا السلام فرصة". علينا الأخذ بهذه النصيحة.
(*) ما الإضافة التي تأتي بها في الجزء الثالث؟
ـ البُعد الروحي كان الأهمّ لي. أردتُ خلق وعاء سينمائي بحيث يمكنني طمس الجرائم، وإبعادها عن نظر المُشاهد، كما في فيلميَّ السابقين، مع الاحتفاظ بالتيمة نفسها. لم ترق لي حقيقة أنّ الناس، في الجزءين السابقين، يتكلّمون عن قسوة الشخصيات من دون الانتباه إلى طابعهم الجدلي. إذًا، يأتي الجزء الثالث لتصحيح ما حصل سابقًا. حافظتُ على التوتّر الذي كان سائدًا.
في "دروس في التناغم"، كان الإيقاع مشدودًا، وهذا لم يعجبني. أعتقد أن صناعة فيلم خفيف شيء أصعب. في النهاية، الجزء الثالث جاء ليحرّر الشخصيات من وطأة الشعور بالذنب وارتكاب الخطيئة. هذا الشعور أردته أن يُداهمني أيضًا. فعندما كنتُ أصوّر المشهد الأخير في "النهر"، شعرتُ بالخفّة.
(*) الطبيعة تحتلّ مساحة مهمّة في الفيلم.
ـ في أحد الأيام، كنتُ في الطائرة فتأمّلتُ الغروب. عادت ذاكرتي إلى الوراء، إلى اللحظة التي كنتُ أذهب فيها إلى النهر وأنا مراهق. كان الشعور ممتازًا. شعور بالسعادة المطلقة. الاستناد إلى هذا الشعور مهمّ للغاية. أردته فيلمًا يرتقي بي. ثم قرأتُ آية من الإنجيل جعلتني أفكّر بتصوير الفيلم في النهر. لوحات الرسّام الألماني فرانز مارك ألهمتني هي أيضًا. أما الأفلام فلا أستلهم منها ولا أشاهدها أصلاً بهدف أن أستوحي منها الأفكار. أميل إلى سماع الموسيقى. مصدر إلهام آخر كان مقطوعة لبيتهوفن. أما مصدر الإلهام الأكبر فكان الشبابيك الزجاجية لبعض الكنائس. طبعًا، ألقت السينما الكلاسيكية ظلالها عليّ. لا أمانع أن تُكتَشف مع الزمن الينابيع التي ارتويتُ منها، لكن لا يمكن القول إنّ هناك سينمائيًا واحدًا أرغب في التمثّل به.
بالعودة إلى سؤالك عن حضور الطبيعة في الفيلم، فأنا ولدتُ وعشتُ في الريف. هذا ترك فيّ مخزونًا ما. لم أترعرع في المدينة. هذا كلّه شعرتُ به في مرحلة متقدّمة من حياتي. الأماكن التي شهِدَت طفولتي لم تهجرني بعد.
(*) من أي بيئة اجتماعية تتحدّر؟
ـ وُلدتُ في قرية كازاخستانية تقليدية في غرب البلد، وعشتُ فيها 5 أعوام، قبل الانتقال إلى مدينة أخرى، هي ثانية المدن من حيث الحجم. هناك، ذهبتُ إلى المدرسة قبل الانتقال مرّة أخرى إلى مكان آخر. عملتُ في صباي في المسرح عامين اثنين قبل أنّ ألتحق بمعهد السينما الذي تخرّجت فيه عام 2009.
في طفولتي، كنتُ أبيع حليب البقر، لأن مرتّب والدي كان يتأخّر أحيانًا، فكنتُ مُضّطرًا أن أبيع الحليب. هكذا كنتُ أمضي وقتي حين كنتُ مراهقًا. عشتُ طفولة جميلة.
(*) تبتعد عن السياسة في أفلامك.
ـ لم أهتم بالسياسة قط في أي يوم من الأيام. لم تحفّزني السياسة على صنع الأفلام. أعتقد أيضًا أن على كلّ سينمائي أن ينظر إلى الحياة خارج الصمّامات السياسية والقيم الأخلاقية المفروضة علينا فرضًا. في أول اجتماع لي مع فريق العمل، قلتُ إنّ هذا الفيلم سيكون عن شؤون كونية.
(*) الطفل أيضًا مهمّ في أعمالك. إنه شيء رمزي جدًا تقول عبره حكاياتك.
ـ سألتُ نفسي مرارًا عن سبب لجوئي إلى الأطفال. لا شكّ في أنّ هناك سببًا ما، لكنّي لم أبحث عنه. لم أنتبه إلى هذا الأمر عندما بدأتُ إنجاز الثلاثية. كلّ ما كنتُ أريده هو إنجاز فيلم عن المراهقة، هذه المرحلة العمرية المهمّة في حياة الإنسان. هذا لا يأتي من كوني تعرّضتُ لـ"تروما" وأنا صغير، بل كاستمرارية لمَا بدأتُه مع "دروس في التناغم". أما الفيلم المقبل الذي أحضّره، فهو عن ناس راشدين.
(*) ممثلوك جميعهم غير محترفين وصغار. أتَسْهَل إدارتهم؟
- لا. عليك معاملتهم ككبار. لا أملك أيّ سرّ أو وصفة سرّية.
(*) تولي الصورة أهمية قصوى في عملك. تكاد لا تمرّر فكرة من دونها.
ـ يُسعدني سماع ذلك منك. فكرة التعبير بالصورة من أولوياتي، وهي حاضرة منذ مرحلة نشوء الفكرة، أي حتى قبل أن أبدأ الكتابة. في هذا الفيلم، تولّيتُ مناصب عديدة. لم أكن المخرج فحسب، بل المنتج ومدير التصوير أيضًا. كانت تجربة مهمّة. أكّد لي الفريق أني عملتُ بسرعة أكبر، لكوني لم أحتج إلى التواصل مع مدير تصوير وأشرح له ما أريد.
طبعًا، ليس سهلًا أن تكون مسؤولاً عن هذا كلّه، لأن نشاط الدماغ يتسارع وهذا متعبٌ. أحيانًا، تصل إلى مرحلة يجب عليك فيها الاستماع إلى الفيلم الذي تخرجه. عليك أن تكون جاهزًا لالتقاط الإشارات. مهمّ جدًا أن تكون ليّنًا وتُجاري الرياح. من الأفضل دائمًا أن تُدخل التعديلات وأنت تُصوِّر من أن تفعلها وأنتَ على طاولة المونتاج.
(*) كيف تُستقبل أفلامك في كازاخستان؟
ـ تتراوح الآراء بين أناسٍ يحبونني وأناسٍ لا يطيقونني (ضحك).
(*) ماذا عن الرقابة؟ هل هناك محظورات؟
ـ عمومًا، لا أركّز على هذه الأشياء. أفعل ما عليّ وأكتفي بذلك. إلى الآن، لم أواجه مشكلة مع الرقابة. لطالما كنتُ حرًا في قول ما أريد قوله، طبعًا في إطار الأشياء التي تهمّني.