في 1996، دُعي السيميولوجي والروائي الإيطالي، أمبرتو إيكو، إلى فرنسا لحضور ندوة حول منجزه الفكري والإبداعي. في كلمة ختامية للندوة، قال بروح الدعابة المعروفة عنه إنه شعر بأنه كان طوال أيام الملتقى مطروحاً كجثّة حية على بساط التحليل، وإن ذلك حقّق له رغبة دفينة عند الكائن البشري؛ هي أن يشهد مراسم جنازته وهو يطلّ من كوّة صغيرة خلف الستائر على الجموع التي جاءت لتوديعه.
نقرأ هذه الحكاية في كتاب "أمبرتو إيكو.. أنا فيلسوف أكتب الروايات"، الصادر مؤخّراً ضمن سلسلة "كتب نزوى" التي تصدرها مجلة "نزوى" العُمانية. وكما أن الحكاية تُشير إلى ندوة عُقدت من أجل تناول إيكو بالدرس، فإن الكتاب حصيلة أعمال ندوة عُقدت في عُمان في نيسان/إبريل الماضي، هذه المرة بعد رحيله بأسابيع قليلة.
يتضمّن الكتاب أربعة مقالات تضيء كل واحدة منها زاوية من عوالم صاحب "اسم الوردة". ويبدو أن العنوان اختير ليُجمِل الفضاء الذي تحرّك فيه إيكو طوال حياته، وهو عبارة مقتطفة من حوار صحافي معه.
في المقال الأول، يُقدّم أحد ناقلي أعمال إيكو إلى العربية، سعيد بنكراد، إضاءات متفرّقة على عوالم السيميولوجي الإيطالي، إذ يتطرّق إلى علاقته بالعصور الوسطى؛ فيذكر كونه كان يعتبر أنه يعرفها بشكل مباشر، أما الحاضر فلا يعرفه إلّا عن طريق التلفزيون.
أبرز ما يضيئه بنكراد هو عن تصوّر إيكو للعوالم السردية التخييلية ومقارنتها بالواقع؛ إذ يشير إلى قول الأخير بأن كتابة الرواية هي قول لأحداث لم تقع أبداً يرافقه اعتقاد بأنها حقيقة. هذا الاعتقاد المرافق للكتابة الروائية يكشف بنكراد بأنه لا يلازم إيكو في أبحاثه العلمية، إذ إن صاحب "بندول فوكو" كان يعتبر النتائج البحثية حقائق صغيرة يدافع عنها أصحابها بقوّة، ولكنّهم مستعدّون للتخلّي عنها مستقبلاً. بالمقارنة بين التمثّلين. وعليه، كان إيكو يرى أن "حقائق السرد أقوى من حقائق الواقع".
يقدّم الأكاديمي العُماني أحمد يوسف، في المقال الثاني، إيكو انطلاقاً من روافده الفكرية، وهو يضع اختصاصه السيميولوجي ذاته ضمن مشهد المعارف في القرن العشرين. يبيّن يوسف بأن إيكو اشتغل على إخراج السيميائيات من طلسمتها العلمية وتحويلها إلى مجال شعبي. يعتبر الكاتب إيكو فيلسوفاً استناداً إلى أطروحة له قال فيها إن السيمائيات العامّة هي الشكل الوحيد الممكن للفلسفة اليوم، بعد أن أخذت الاختصاصات المتفرّعة عنها؛ كعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، مباحثها الرئيسية.
في مقاله، يقدّم الباحث العُماني سعود الزدجالي تطبيقاً لبعض مقولات إيكو في السيميولوجيا باعتبارها "منهجاً لتحليل عمليات إنتاج العلامات وتفسيرها" على مجال أصول الفقه بوصفه "نسقاً في تحليل الخطاب الشرعي". أمّا المقال الأخير، فهو شهادة يقدّمها الباحث العُماني سالم المعمري باعتباره أحد طلبة إيكو، فيكشف وجه "الأكاديمي المنضبط" وعلاقاته بالجامعة (جامعة بولونيا في شمال إيطاليا) كمكان ومعلَمٍ وفضاء سيميائي يحتكّ به يومياً.