في كتابه الصادر حديثاً بعنوان "حرب بوتين الخفية. كيف يزعزع بوتين استقرار الغرب"، يفكك الخبير الألماني في الشؤون الروسية، بوريس رايتشوستر، استراتيجيات وأدوات الحرب الخفية، التي يشنها سيد الكرملين فلاديمير بوتين ضد الدول الغربية عامة وضد ألمانيا خاصة، بهدف زعزعة استقرارها السياسي وتقويض شرعية ديمقراطياتها.
ولا يرصد المحلل السياسي رايتشوستر، الذي عمل أكثر من عقدين مراسلاً في موسكو لعدة وسائل إعلام ألمانية في كتابه، تأثير شبكات نشر البروباغندا الروسية في دول الاتحاد الأوروبي المناهضة لسياسته التوسعية فقط، بل يكشف الستار عن أخطار تغلغل ما أطلق عليه "طابور الكرملين الخامس" في مؤسسات الدولة الألمانية وتداعيات ذلك على الاستقرار السياسي والاجتماعي للبلاد على المدى المتوسط والبعيد.
وفي الواقع خرجت مظاهر الحضور الروسي الموجه في ألمانيا في نهاية العالم الماضي إلى النور بشكل واضح خلال النقاش العام حول سياسة المستشارة أنجيلا ميركل تجاه استقبال اللاجئين، التي جنبت أوروبا كارثة إنسانية كبرى. وفي هذا السياق كشفت مؤسسات أمنية ألمانية عن أن الأجهزة الإعلامية، التي يحركها بوتين، خططت سرًا للإطاحة بميركل عن طريق نشر البلبلة والأكاذيب والقصص المرعبة المختلقة حول "غزو اللاجئين لألمانيا وتهديدهم لأمنها واستقرارها"، وفق تقييم هيئة حماية الدستور الاتحادية. هذه الهيئة الدستورية، التي تعتبر بمثابة جهاز أمن استخباري داخلي يرصد كل ما يهدد الديمقراطية الألمانية، أكدت في تقاريرها الأمنية أن روسيا كثفت نشاط التجسس في ألمانيا ودول أوروبية أخرى منذ بدء الأزمة الأوكرانية.
يفتتح بوريس رايتشوستر كتابه الاستقصائي بالإشارة إلى أنه لا يسعى بتاتاً إلى "شيطنة بوتين" أو الشعب الروسي بأكمله، بل يسعى إلى التحذير من تداعيات "منظومة الحكم البوتينية القائمة على رغبته المجردة في الحفاظ على السلطة بأي ثمن وفي معزلٍ عن التاريخ على مستقبل روسيا والعالم".
ويصف رايتشوستر عقيدة بوتين السياسية أو ما يطلق عليه "الأيديولوجية الوحيدة لسيد الكرملين"، بأنها خليط غريب من العقلية السوفييتية القديمة ونزعة القومية الشوفينية، يضاف إليهما رأسمالية مفرطة لا تعرف الرحمة توجهها الدولة الروسية وما يسير في فلكها من أتباع الدولة العميقة.
وعلى الرغم من فشل الدعاية الروسية في زعزعة الاستقرار في ألمانيا وإسقاط المستشارة ميركل، لأنها أقوى سياسية غربية تدعم العقوبات الغربية المفروضة على نظام الرئيس فلاديمير بوتين، إلا أنها نجحت نسبياً من خلال تأجيج أزمة اللاجئين في تعميق الانقسامات داخل المجتمع الألماني، وفي تسميم الخطاب السياسي الألماني وتكريس قطيعة القوى اليمينية المتطرفة مع مفهوم الوسطية الألمانية.
ومن هذا المنطلق، يعبر رايتشوستر، الذي يعتبر روسيا وطنه الثاني رغم اضطراره إلى تركها بسبب تعرضه لتهديدات من قبل قوى غير معروفة في موسكو، عن استغرابه من استخفاف النخب السياسية الألمانية، حكومة ومعارضة، بخطورة التهديدات الروسية لألمانيا، ويشير إلى "وجود أكثر من 300 رجل مسلح ينتظرون أوامر الكرملين لتنفيذ عمليات خاصة تثير الرعب والفوضى في ألمانيا".
وفي إطار الحروب البوتينية متعددة الجبهات يوثق المحلل السياسي رايتشوستر مقولة قائد جمهورية الشيشان، رمضان قاديروف، الذي يدين له آلاف الجنود بالولاء، بأنه سيقوم بملاحقة كل من يعارض بوتين داخل وخارج روسيا.
المفارقة الكبيرة في نظر الكاتب تكمن في حقيقة أن "نظام بوتين" لم يطور استراتيجيات جديدة لمواجهة تفوق الغرب في المجالين الاقتصادي والتكنولوجي على روسيا المنهارة اقتصادياً على أرض الواقع، بل أعاد تطبيق جملة من التكتيكات المعروفة والمستخدمة سابقًا من قبل جهاز الاستخبارات "الكي جي بي" السوفييتي السابق، بهدف نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار في الدول المعادية لطموحات الدب الروسي.
لكن الجديد في استراتيجية بوتين يكمن في تنوع أدواتها، فبجانب التمويل المباشر لكل الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، التي يتم استغلّال سذاجتها السياسية وعدائها البغيض لقيم الديمقراطية ولمعايير دول القانون الدستورية، من أجل دق إسفين بين المواطنين والنخب الديمقراطية الحاكمة وتقويض شرعيتها، يشن "جيش موسكو الإلكتروني" في وسائل التواصل الاجتماعي حرباً تشويهية مفتوحة على كل من ينتقد سياسة بوتين"، كما يوثق رايتشوستر في كتابه.
كما تتميز استراتيجية الحرب الروسية الهجينة، بتركيزها على استغلال نقاط الضعف في أي بلد يقف في وجه المصالح الروسية. رايتشوستر يشير في تحليله العميق إلى أن قوة بوتين تقوم على ضعف الغرب، أو بتعبير أكثر دقة على عدم قدرته على صياغة موقف موحد من القضايا والصراعات الدولية. فعلى سبيل المثال "استغل بوتين الفراغ الكبير الذي تركه أوباما في سورية من أجل تقديم نفسه كأنه شريك لا يمكن الاستغناء عنه لمواجهة الإرهاب ودعم الاستقرار في الشرق الأوسط، على الرغم من أن طائراته تشن غارات على أهداف مدنية في المدن السورية وتساهم بشكل مباشر في تسريع هروب مئات الآلاف من السوريين".
وفي ختام كتابه يشدد رايتشوستر على ضرورة الحوار مع روسيا البوتينية، لكن من موقع القوة، ويشير إلى أن بوتين يدعم عودة الأنظمة السلطوية المعادية للغرب في شتى أنحاء المعمورة، كما هو الحال في مصر، بهدف تشكيل قوة مضادة للهيمنة الغربية. لذلك ينصح بتطوير استراتيجية أوروبية فاعلة ضد الدعاية الروسية ودعم أسس الديمقراطية داخل وخارج المنظومة الغربية.
(كاتب ومحلل سياسي مختص في الشأن الألماني)
اقــرأ أيضاً
ولا يرصد المحلل السياسي رايتشوستر، الذي عمل أكثر من عقدين مراسلاً في موسكو لعدة وسائل إعلام ألمانية في كتابه، تأثير شبكات نشر البروباغندا الروسية في دول الاتحاد الأوروبي المناهضة لسياسته التوسعية فقط، بل يكشف الستار عن أخطار تغلغل ما أطلق عليه "طابور الكرملين الخامس" في مؤسسات الدولة الألمانية وتداعيات ذلك على الاستقرار السياسي والاجتماعي للبلاد على المدى المتوسط والبعيد.
وفي الواقع خرجت مظاهر الحضور الروسي الموجه في ألمانيا في نهاية العالم الماضي إلى النور بشكل واضح خلال النقاش العام حول سياسة المستشارة أنجيلا ميركل تجاه استقبال اللاجئين، التي جنبت أوروبا كارثة إنسانية كبرى. وفي هذا السياق كشفت مؤسسات أمنية ألمانية عن أن الأجهزة الإعلامية، التي يحركها بوتين، خططت سرًا للإطاحة بميركل عن طريق نشر البلبلة والأكاذيب والقصص المرعبة المختلقة حول "غزو اللاجئين لألمانيا وتهديدهم لأمنها واستقرارها"، وفق تقييم هيئة حماية الدستور الاتحادية. هذه الهيئة الدستورية، التي تعتبر بمثابة جهاز أمن استخباري داخلي يرصد كل ما يهدد الديمقراطية الألمانية، أكدت في تقاريرها الأمنية أن روسيا كثفت نشاط التجسس في ألمانيا ودول أوروبية أخرى منذ بدء الأزمة الأوكرانية.
يفتتح بوريس رايتشوستر كتابه الاستقصائي بالإشارة إلى أنه لا يسعى بتاتاً إلى "شيطنة بوتين" أو الشعب الروسي بأكمله، بل يسعى إلى التحذير من تداعيات "منظومة الحكم البوتينية القائمة على رغبته المجردة في الحفاظ على السلطة بأي ثمن وفي معزلٍ عن التاريخ على مستقبل روسيا والعالم".
ويصف رايتشوستر عقيدة بوتين السياسية أو ما يطلق عليه "الأيديولوجية الوحيدة لسيد الكرملين"، بأنها خليط غريب من العقلية السوفييتية القديمة ونزعة القومية الشوفينية، يضاف إليهما رأسمالية مفرطة لا تعرف الرحمة توجهها الدولة الروسية وما يسير في فلكها من أتباع الدولة العميقة.
وعلى الرغم من فشل الدعاية الروسية في زعزعة الاستقرار في ألمانيا وإسقاط المستشارة ميركل، لأنها أقوى سياسية غربية تدعم العقوبات الغربية المفروضة على نظام الرئيس فلاديمير بوتين، إلا أنها نجحت نسبياً من خلال تأجيج أزمة اللاجئين في تعميق الانقسامات داخل المجتمع الألماني، وفي تسميم الخطاب السياسي الألماني وتكريس قطيعة القوى اليمينية المتطرفة مع مفهوم الوسطية الألمانية.
ومن هذا المنطلق، يعبر رايتشوستر، الذي يعتبر روسيا وطنه الثاني رغم اضطراره إلى تركها بسبب تعرضه لتهديدات من قبل قوى غير معروفة في موسكو، عن استغرابه من استخفاف النخب السياسية الألمانية، حكومة ومعارضة، بخطورة التهديدات الروسية لألمانيا، ويشير إلى "وجود أكثر من 300 رجل مسلح ينتظرون أوامر الكرملين لتنفيذ عمليات خاصة تثير الرعب والفوضى في ألمانيا".
وفي إطار الحروب البوتينية متعددة الجبهات يوثق المحلل السياسي رايتشوستر مقولة قائد جمهورية الشيشان، رمضان قاديروف، الذي يدين له آلاف الجنود بالولاء، بأنه سيقوم بملاحقة كل من يعارض بوتين داخل وخارج روسيا.
المفارقة الكبيرة في نظر الكاتب تكمن في حقيقة أن "نظام بوتين" لم يطور استراتيجيات جديدة لمواجهة تفوق الغرب في المجالين الاقتصادي والتكنولوجي على روسيا المنهارة اقتصادياً على أرض الواقع، بل أعاد تطبيق جملة من التكتيكات المعروفة والمستخدمة سابقًا من قبل جهاز الاستخبارات "الكي جي بي" السوفييتي السابق، بهدف نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار في الدول المعادية لطموحات الدب الروسي.
لكن الجديد في استراتيجية بوتين يكمن في تنوع أدواتها، فبجانب التمويل المباشر لكل الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، التي يتم استغلّال سذاجتها السياسية وعدائها البغيض لقيم الديمقراطية ولمعايير دول القانون الدستورية، من أجل دق إسفين بين المواطنين والنخب الديمقراطية الحاكمة وتقويض شرعيتها، يشن "جيش موسكو الإلكتروني" في وسائل التواصل الاجتماعي حرباً تشويهية مفتوحة على كل من ينتقد سياسة بوتين"، كما يوثق رايتشوستر في كتابه.
كما تتميز استراتيجية الحرب الروسية الهجينة، بتركيزها على استغلال نقاط الضعف في أي بلد يقف في وجه المصالح الروسية. رايتشوستر يشير في تحليله العميق إلى أن قوة بوتين تقوم على ضعف الغرب، أو بتعبير أكثر دقة على عدم قدرته على صياغة موقف موحد من القضايا والصراعات الدولية. فعلى سبيل المثال "استغل بوتين الفراغ الكبير الذي تركه أوباما في سورية من أجل تقديم نفسه كأنه شريك لا يمكن الاستغناء عنه لمواجهة الإرهاب ودعم الاستقرار في الشرق الأوسط، على الرغم من أن طائراته تشن غارات على أهداف مدنية في المدن السورية وتساهم بشكل مباشر في تسريع هروب مئات الآلاف من السوريين".
وفي ختام كتابه يشدد رايتشوستر على ضرورة الحوار مع روسيا البوتينية، لكن من موقع القوة، ويشير إلى أن بوتين يدعم عودة الأنظمة السلطوية المعادية للغرب في شتى أنحاء المعمورة، كما هو الحال في مصر، بهدف تشكيل قوة مضادة للهيمنة الغربية. لذلك ينصح بتطوير استراتيجية أوروبية فاعلة ضد الدعاية الروسية ودعم أسس الديمقراطية داخل وخارج المنظومة الغربية.
(كاتب ومحلل سياسي مختص في الشأن الألماني)