وكان البيت الأبيض قد سعى بشكل حثيث، يوم الأربعاء، لاحتواء غضب أثارته قمة ترامب مع بوتين في هلسنكي، إذ "نفى أن يكون ترامب قد قصد في معرض حديثه مع صحافيين قول إن موسكو لم تعد تستهدف الولايات المتحدة". بدوره، أعلن مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر راي، أن "أجهزة الاستخبارات الأميركية تصرّ على موقفها بأن روسيا تدخلت في الانتخابات الرئاسية 2016"، رغم نفي بوتين ذلك لنظيره الأميركي. وقال راي رداً على سؤال بشأن نفي بوتين لأي تدخل خلال قمة هلسنكي، الاثنين: "لديه رأيه، لقد عبر عن رأيه". وأضاف أن "خلاصات أجهزة الاستخبارات لم تتغير. رأيي لم يتغير، وهو أن روسيا سعت للتدخل في الانتخابات الأخيرة وبأنها تواصل القيام بعمليات خبيثة للتأثير حتى هذا اليوم". وأضاف أن تلك الأعمال "تهدف إلى بث الخلاف والانقسامات في هذا البلد".
وقال راي إن "مكتب التحقيقات الفيدرالي لم ير أي أعمال بالتحديد تستهدف أسس الانتخابات الأميركية"، عندما استهدف قراصنة معلوماتية روس حواسيب التسجيل وإدارة الاقتراع في أنحاء البلاد، بحسب الاستخبارات الأميركية. وأكد أن "هناك مساع أخرى بالتأكيد، يمكن أن أصفها بعمليات خبيثة للتأثير، تنشط بشكل كبير. وقد نكون على مسافة قريبة جداً من المرحلة التالية". وقال "بالنسبة لي، إنه تهديد علينا التعامل معه ببالغ الجدية والرد عليه بتركيز وتصميم كبيرين". ورداً على سؤال حول ما إذا كان يعتبر، مثل ترامب، أن دولاً أخرى تدخلت أيضاً، قال راي إن "بعض الدول ستحاول بالتأكيد التأثير بطرق مختلفة على السياسة الأميركية للمضي قدماً".
وبعد "تراجع" ترامب وتنفيس الحملة نسبياً وإن بصورة مؤقتة على أدائه في قمة هلسنكي، بدأ التصويب في واشنطن يتجه نحو خلوة الساعتين بين الرئيسين ومترجِمين فقط. فهي كانت الجزء الأهم في قمة أحاطت بها السرية والألغاز. وجرت بلا محضر أو تدوين نقاط ولا حتى موجز عنها. وعزز التوجس والارتياب أن الروس بدأوا تسريب معلومات وتلميحات عنها. إحداها صدرت أمس، عن السفير الروسي في واشنطن أناتولي أنتونوف، خلال لقاء صحافي أجراه في موسكو، محدداً عدداً من "الاتفاقات الشفهية التي جرى التوصل إليها في اجتماع ترامب وبوتين، ومنها واحد يتعلق بسورية". مع العلم أن المتحدثة باسم الخارجية، هاذر ناورت، نفت ذلك رداً على سؤال لـ"العربي الجديد"، لكنها أشارت إلى أنه "جرى عرض اقتراحات في أكثر من شأن". وكان ترامب قد لمّح بعد القمة إلى ما معناه أن جنوب سورية قد تم وضعه في عهدة تفاهم روسي – إسرائيلي. كما سبق له أن وعد خلال الربيع الماضي في خطاب أمام أنصاره في ولاية أوهايو بانسحاب قريب من سورية، ولو أن البيت الأبيض صرف النظر عن الخطوة حتى إشعار آخر بناء على نصيحة وزارة الدفاع (البنتاغون).
وعليه، فإن تكذيب الخارجية المبطن لمعلومة السفير الروسي عن سورية، يعكس الامتعاض من التسريب الفاضح أكثر مما ينكر حصول توافق على خطة موسكو في جنوب سورية وربما في باقي مناطقها. وهذا ما حمل بعض الديمقراطيين في الكونغرس على المطالبة باستدعاء المترجمة التي رافقت الرئيس في الخلوة، للاستماع إلى إفادتها ومعلوماتها عن مواضيع اللقاء، في جلسة أمام اللجنة المعنية في مجلس الشيوخ، غير أنه من الصعب عقد مثل هذه الجلسة في ضوء ممانعة الجمهوريين. لكن السعي متواصل والضغوط متزايدة لفك لغز جلسة الساعتين.
خصوم الرئيس يتحدثون عن سيد البيت الأبيض بلغة "الخيانة وبأن ترامب في جيب بوتين الذي يسيطر على نظيره الأميركي". ومنهم في الكونغرس من باشر بالترويج لمشروع قانون بوضع "روسيا على لائحة الإرهاب". كما تم القبض على سيدة روسية بتهمة أنها "جاسوسة زرعتها موسكو" في أميركا، وهو ما أدى إلى قيام روسيا بتسطير مذكرة للتحقيق مع 12 أميركياً، منهم السفير السابق في موسكو مايكل ماكفول. ويبدو أن الخطوة جاءت رداً على توجيه التهمة الأسبوع الماضي لـ12 من العسكريين الروس بممارسة القرصنة للتدخل غير المشروع في الانتخابات الأميركية.
لو كانت قمة هلسنكي اعتيادية لكان من المفترض أن تتصدى لهذا التردي. لكنها على العكس، صبت الزيت على ناره. العلاقات الأميركية الروسية التي كانت متوترة قبلها صارت شبه متفجرة بعدها. وهي مرشحة للمزيد من الالتهاب مع التوسع المتسارع لدائرة التنافر. وزاد الطين بلّة ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" أخيراً استناداً إلى معلومات منسوبة إلى مصادر استخباراتية بأن "الرئيس بوتين هو الذي أعطى شخصياً الأوامر للتدخل الإلكتروني في الانتخابات الأميركية، وأنه جرى إبلاغ ترامب بالأمر قبل أسبوعين من حفل تنصيبه". انكشاف من شأنه أن يؤجج الحرب السياسية الطاحنة بين البيت الأبيض وخصومه.