الإهداء: هل تشعر بالجفاف؟ هل هرب الكلام من قلبك العصفور؟ هل تشعر برغبة عارمة بالصراخ فلا تجد الصيحة المُعبِّرة عن مدى حنقك وخوفك واستغرابك؟ هل رأيت النار تتآخى مع الماء حتى طفت الأحلام على السطح كأنها أسماكٌ ميتة من هول ما جرى؟ أنت حيٌّ إذاً، لكن الموت أخذ كل شيء من حولك وتعفّفَ عنك.
حيٌّ تآمرتْ عليه الحياة، وستستفرد بك الذكريات كما لو أنها ذئاب جائعة، خذ الآن صورة تذكارية مع الخراب كما لو أنك مهاجر ظل طويلا يعاني صدمة الحضارة، تستطيع أن تكتب تعليقك الوحيد عليها: سيلفي وذكرياتكم خلفي.
الصورة الأولى في ألبوم الفاجعة: "أنا عايشة عمو"
أنت حيّة يا صغيرتي حيّة تتنفس رماد الحرائق، تلك الحرائق التي أكلت كل شيء؛ أبويك، إخوتك، صوركم على الحيطان مذ كنتِ مائلة على جذع أمك وحتى مالت بك الأرض، ألعاب الطفولة، خزائن الذكريات والملابس والكتب المدرسية، تنفسي تنفسي يا عمو فأنت الحية الوحيدة، فيما ننظر إليك من خلف شاشاتنا صارخين: كم نحن أموات.
الصورة الثانية في الألبوم: "بيوتٌ تقبِّل الشارع"
البيوت جداتنا اللواتي يحفظن كل أساطيرنا، يعرفن كم مرة دخل كل فرد من العائلة وخرج، البيوت حفيدات الشارع، حين ينام الناس يسهرن على جانبيه، يتسامرن بحكايا النائمين، ويلعبن فيما بينهن لعبة الحقيقة، فيما يضحك الشارع فتتكسر ضحكته بالسعال، وذات حربٍ اغتالتِ الشارعَ قذيفةٌ فانحنت عليه البيوت، كلما رأيت صورة البيوت المهدمة اختنقت بالدمع وانتابني هاجس البكاء، وظلَّ ذئبٌ بعيدٌ في الروح يعوي ويعوي ويعوي.
الصورة الثالثة في الألبوم: "قهر الرجال"
بين مقولة الدرويش: "لا تصدق زغاريدهنَّ وصدّق بكائي" والصراخ قهرا تأتي صورتك؛ يداك ممدودتان كشجرتين إلى السماء تمدان الأخضر للعصافير التي غادرتك، وفاهك مفتوح بالعويل كما لو أنه يكسر جدار الصوت، أنظر إليك فأشعر بكل البلور الذي في نوافذ روحي يتهشم، أنت تصرخ بكل قوة الروح وهشاشتها المفرطة: يا الله، فيرتجف الكون، يرتجف بردانا وخائفا وذليلا وغاضبا وعاجزا، تقهرني صورتك فأشيح عنها بناظري بينما تظل تنهشني، وتستمر أنت بصرختك المدوية وأنا بالعويل.
الصورة الرابعة: "فارس يا بياع الورد"
ماذا نقول لأمك وهي تلمّ عطرك المسفوح؟ ماذا نقول لمدينتك وأنت الذي حملتها وردة وردة في بيروت، وحين عدت إليها زائرا نثر الموت جسدك خميرة للكثير من شقائق النعمان في الزمن القادم؟ في سبيل الخبز كنت تبيع الورد وفي سبيل الورد قدمتَ دمك الزكي، ولم تحظَ كما لو أنك بائعة الكبريت سوى بالموت، أحيانا أرى الموت مولع بجمع التحف الجميلة، وإلا ما معنى أنك الآن في حضرته.
الصورة الخامسة: "على معبر الموت"
القناص ذئب يشم رائحة الدم والناس طرائد، سندخل القيامة على كل حال، فودعني وأودعك ثم نركض، الوجوه واجمة والأرواح منكسرة، عطش صاخب وجوع بمخالب تفتك بالجموع، "حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس" هذه العبارة كنت أسمعها كثيرا ولكنها لم تكن ماثلة عيانا وواضحة كما هي في هذا المشهد الوَجِل، الخوف الذي يُفضي إلى الشجاعة موتٌ مُتمرِّسٌ يعرف كيف يجر ضحاياه إلى المقصلة، تمشي الجموع بين منطقتين تاركة للقناص مهانة اختيار الجريمة التالية، الصورة صامتة جدا كأنها توثّق برهة من الزمن، وصاخبة جدا كأنها موسيقيا تصويرية لفيلم رعب، أشاهدها قابضا على قلبي في انتظار شارة النهاية.
صورة بلا ترتيب معين: "طفلٌ يبول على العالم"
إخوتك الأطفال ثقّبوا أجسادهم الغضّة بالسكاكين والحراب، أبوك الذي لم يغمض عينيه وهو يودّعك لئلا تشعر بغيابه الأخير، أمّك التي بقروا بطنها لاتزال روحها تحوم حولك وهي تهمس في أذنك: لا تخف يا حبيبي سأنتظرك حتى يفرَغوا منكَ، تعال يا صغيري فهناك ألعاب كثيرة في انتظارك، وأنت تبول على العالم القذر كي تطهره، بقعة البول التي ظهرت في صورتك رطبةً ستظل كما هي وكلما نظرنا إليك سنشعر بها علينا.
الصورة ما قبل الأخيرة: "لافتة"
هناك حيث يتوق الجميع للبدايات يجلس "الرجل البخاخ" منتظرا الفرصة ليضع على ما بقي من الحيطان لمسته الأخيرة.
(سورية)