ألا يوجد أناس عاديون هنا؟
عارف حمزة
حوّل "فيسبوك"، أو "فايس بوك"، الحياة كلّها عند كثير من الناس في منطقتنا العربيّة إلى حياة افتراضيّة؛ لدرجة أن كثيراً من الأشخاص وجدوها حياة أفضل وأسهل من حياتهم الشخصيّة العاديّة، وربّما المملّة أو الرتيبة؛ لدرجة أن يذهب أحدهم إلى العمل أو المدرسة أو لإحضار طلبات البيت... ويعود سريعاً لحياته السرّية التي يستطيع العيش فيها كما يحلو له، لا كما ترسمه له الأقدار والشخصيّات التي حوله.
وفي العالم العربي، جاءت مواقع التواصل الاجتماعي في غير وقتها، يقول قائل، كما الحياة الحقيقيّة نفسها في ظلّ الديكتاتوريّات، أو عدم انتشار الأنظمة الديمقراطيّة، وعدم وجود فرص عمل جيّدة والمجاعات والحروب والتطرّف الديني، أو ربّما لأن العالم العربي ما زال عالماً "اجتماعياً" ولا يُعاني العزلات التي تزدهر في العالم الغربيّ أو المتحضّر.
وربّما جاءت في وقتها، يقول قائل آخر، حيث الحريّة الشخصيّة، وباقي الحريات، موجودة في كل الدساتير العربيّة تقريباً، دون وجودها على أرض الواقع. وحيث لم يعد من السهل إيجاد مكان للبوح والرأي المخالف وتفاعل الآخرين معه، ولو بالتفاتة أو بضغط من إصبع.
ورغم أنّ تعريفاً مُبسَّطاً لمواقع التواصل الاجتماعي يمكن من خلاله أن نقول إنّه مصطلح "أطلق على الخدمة الإلكترونيّة التي تقدمها شبكة الإنترنت للأفراد والجماعات، فتتيح لهم التواصل في ما بينهم بحسب الاهتمامات التي تجمعهم". إلا أنّها، في ذات الوقت، تؤلّف العزلة الاجتماعيَّة التي تبقى مناقضة للمصطلح نفسه.
في منطقتنا العربيّة تمّ استخدامها، مثلاً، للاتفاق على الخروج في تظاهرات أدت لقلب أنظمة الحكم في بلادها، أو سبّبت في ذلك، كما في حالتي مصر وليبيا على الأقل. وفي نشر فيديوهات ومشاهد دمويّة وحربيّة وقاسية، كما في حالتي سورية واليمن على الأقل.
كما أنّها سببت موجة من الكراهية، والحروب الافتراضيّة، بين أبناء البلد الواحد، مثل سوريّة. عندما ينشر الهاربون من الموت صور حياتهم الجديدة في أوروبا، فينبري لهم الذين بقوا، حتى لحظة كتابة منشوراتهم، في الداخل ويلومونهم على الفرح وأبناء البلد يُقتلون، ويلومونهم على صور الموائد العامرة التي ينشرونها على صفحاتهم، بينما أبناء البلد يموتون من الجوع، ويلومونهم حتى على الحنين إلى البلد أو وصف ثقل الغربة وعدم تعوّدهم عليها. موجة الكراهية هذه تجعل الحياة الافتراضيّة أكثر واقعيّة، وأكثر قرباً من عيادات الطب النفسي.
ظاهرة أخرى تفشّت بشكل غريب ومتواتر؛ وهي قيام أشخاص بسرقة نصوص وكتابات الآخرين، بغضّ النظر عن مدى جودة وإبداع تلك الكتابات، ونشرها على صفحاتهم على أنّها نصوصهم الشخصيّة، وإبداعهم الشخصيّ، فتبدأ حرب التشهير بين الأطراف، تلك الحرب التي تلغي الحياة الافتراضيّة وتجعلها أسوأ من الحياة الواقعيّة نفسها؛ ففي الحياة الواقعيّة ستحصل مشكلة كبيرة، قد تؤدي للملاحقة القضائيّة ودفع الغرامات وربّما السجن، ناهيك عن الفضيحة التي ستلحق بالذي سيسرق نصاً لغيره وينشره حرفيّاً بإسمه في صحيفة ما أو في مجلة أو في موقع إلكترونيّ.
شاعر سوريّ شاب، وتنطبق حادثته على كثيرين، نشر عدّة نصوص شعريّة، وبوستات عاديّة حتى، تمّت سرقتها حرفيّاً من فتاة تعرّف نفسها على أنها شاعرة شابة. المصيبة أنّها لم تكتفي بنشرها على صفحتها باسمها، بل قامت بنشر بعضها، كقصائد لها، في صحيفتين ومجلة وتمّ تقديمها على أنّها شاعرة!!.
هذا ما دفع كثيراً من الكتّاب إلى نشر النصوص القديمة المنشورة لهم في كتبهم أو في الصحف خوفاً من تعرّض أعمالهم للسرقات، وبالتالي عدم قدرتهم على نشرها في كتب قادمة. أحد الشعراء المصرييّن ينوه، عند نشره نصاً ما في صفحته الشخصيّة، إلى أنّها منشورة سابقاً في الكتاب الفلاني، ليس حماية لنصوصه فحسب، بل يُفكر في تعب الآخرين في سرقة ما لا يُمكن سرقته حرفيّاً. أمّا عدم السرقة حرفيّاً فحدّث ولا حرج إذ إن "فيسبوك" يستخدمه ملايين الناس في عالمنا العربي الافتراضيّ، والكلام والعواطف مشاع بين قبائل "فيسبوك".
هناك كثير من الصفحات الوهميّة لأسماء وهميّة. إذ إن الحياة الافتراضيّة ربما توجب ذلك كي تتسع حريّة الأسرار أو الحياة السرّية. ولكن كلّ هذه القرون الواقعيّة لن تستطيع أن تمنح الشجاعة لأولئك الواهمين والوهمييّن. هذا يبقى أمراً عادياً وغير مقتصر على المنطقة العربيّة.
ولكن هناك ظاهرة أخرى تتحوّل من ظاهرة خفيفة الدم، أو ذات أهداف جيّدة، إلى شيء آخر، هناك صفحات "شخصيّة" لكتاب وفنانين رحلوا عن هذه الحياة الواقعيّة، بينما حياتهم الافتراضيّة ما زالت تنبض.
محمود درويش و ميخائيل نعيمة و نزار قباني و المتنبي ونجيب محفوظ وولوركا وهمينغواي وتشرتشل... ليست صفحات تنشر إبداعات أولئك الكتاب الراحلين، مع وجود صفحات تعمل على هذا الشأن مشكورة، بل صفحات شخصيّة بكل معنى الكلمة.
يكتب محمود درويش نصاً جديداً، جديداً بالفعل وغير منشور في دواوينه السابقة، فتبدأ اللايكات والشيرات و التعليقات. واحدة تكتب له: أستاذ محمود أنت تكتب شعراً جميلاً. فيردّ عليها بـ "سمايل" خجلاً. ولكنها تريد إخراجه من إحراجه؛ فتقول له: كم أنت متواضع، أنت بجد شاعر مهم!!
ظاهرة أخرى تحدث على "فيسبوك" عندنا، وهي أن كثيرين يعرّفون أنفسهم بأنهم: شاعر، أو شاعر وكاتب، أو كاتب وفنان، أو كاتب وصحافي، أو روائي وشاعر سابق... وعندما تبحث عنه داخل صفحته، أو في محركات البحث لا تجد له إصدارات، سواء في الكتب أو في الصحف وفي المجلات. وكلّما انتبهتُ إلى ذلك، من خلال طلبات الصداقة التي تصلني، أسألُ نفسي: ألا يوجد أناس عاديّون هنا؟.
أين بائع الخضار وميكانيكي السيارات والكوافيرة ونادلات وندّل المطاعم والمقاهي؟ ألا يوجد هنا طبيب بيطري يا ناس أو طبيبة جلديّة أو سمكري أو قابلة قانونيّة أو صيّاد سمك أو دهّان أو بلاط؟. وهي مشكلة حقيقيّة؛ فإذا تعطلت سيارة أحدنا في شوارع "فيسبوك" الضيّقة والواسعة، ماذا سيفعل ولا يوجد هنا "كومجي" واحد سيهرع لنجدته؟