ألا ليت..

24 اغسطس 2015
+ الخط -

رمى الزميل معن البياري قفاز التحدّي، أمامي، في مقالته الأخيرة، هنا، وقال لي: ها هو الميدان! أرادني أن ألتقط طرف خيط النقاش في قضية التقدّم في السنّ، ومراحله الحاسمة، التي أثرتها في مقالتي عن بلوغي سنّ "معترك المنايا"، كما سماها العرب. فلماذا لم تحظ الخمسون بلفتة، أو وقفة، مني، عندما رحتُ أعدِّدُ الأعمار الحاسمة في حياة الإنسان، مع أن الأرقام نفسها لا تعني شيئاً. المهمُّ هو أيّ حياةٍ تلك التي تتوارى وراء الأرقام التي نحسبُ بها أعمارنا؟

 لو سألنا الأوروبيين عن الأعوام التي يتوقفون عندها في حياتهم، لربما أجمعوا على الآتي:

-القبلة الأولى في الثالثة عشرة. يتعلق الأمر، هنا، بالتغيّر الجسدي والنفسي الدراماتيكي الذي يمرُّ به الذكور والإناث معاً. الثالثة عشرة، ربما قبلها بقليل بالنسبة للإناث، نقطة العبور الرسمية إلى عمر المراهقة المتقلّب، المرهق، النزق، الذي ترفعه الهرمونات إلى السماء مرة، وتخسفه إلى الأرض مرة أخرى.

- السادسة عشرة، خصوصاً للبنات، إنها التي تسمى "سويت سكستين" في أميركا الشمالية، وانتقلت، شأن أيّ دُرْجَةٍ أميركيةٍ، إلى القارة العجوز. ففي أميركا، يحصل المرء على رخصة قيادة السيارات في هذه السنّ، وتعتبر سنَّ الرشد، قانونياً، في بعض الولايات.

-الواحدة والعشرون. وهذه سنُّ الدخول الحقيقي في "معترك" الحياة. فيها يتخرّج معظم الطلاب من الجامعة. يخوضون غمار العمل في بلدان معينة، أو يؤخذون إلى الجندية في بلدان أخرى. هذه سنّ مفصلية. على أرضها تضع أولى خطاك التي قد تتمنى، لاحقاً، لو أنك لم تضعها، أو لو أنك فكَّرت فيها مليّاً، أو عكس ذلك، تؤدي بك إلى النجاح والتألق والانسجام مع من اخترتهم لهذا الطريق، ولا تتمنى، عندما تعود بك الذاكرة إلى الوراء، غير ما فعلته حينها! (لا أصدق من يقول ذلك).

يمكن لي أن أعدّد أكثر. ولكن فقط في العالم الغربي، أو في بعض الثقافات الشرقية (غير العربية طبعاً) التي تتوقف عند محطات العمر، وتوزِّع على كل محطة مهام وواجبات واستحقاقات، ويلحظ القانون بعض هذه المحطات ويخصّه بأحكامه. فليس القاصر في نظره كالبالغ. ليس ابن السادسة عشرة مثل ابن الواحدة والعشرين.. وما فوق.

يتعلق ذلك كله بالجانب الاجتماعي والقانوني للمراحل العمرية، ولا علاقة له، كثيراً، بما أثرناه من وقفات خاصة أمام "التقدّم في العمر"، وهو ما لحظه المصطلح الألماني (Bildungsoman) الذي صكَّه النقد الأدبي، أول مرة، مع صدور رواية غوته "سنوات تدريب فيلهلم مايستر" التي يمكن إدراجها، أيضاً، في خانة "الرواية التربوية". نحن هنا نتحدث عن التقدّم في السن كموضوع نفسي. يمكن لنا أن نضمّنه، أيضاً، الصراع بين الواجب والرغبة، التساؤل عن الزمن والذات، الزمن والعالم إلخ..

عندما وقفت أمام سنّ الأربعين، فذلك لأنَّ لها عندي أسطورتها الخاصة، فقد كنت أظن، بل أؤمن، بأنها السنُّ، البعيدة جداً التي لا يبلغها الشعراء. لأنَّ هؤلاء "يحرقون" أعمارهم على نحو أسرع مما يفعل "الناس العاديون". كان في ذهني أسماء شعراء غيّروا شعر زمانهم، في غير مكان في العالم، وماتوا قبل أن يبلغوا الأربعين. شواهدي عديدة: امرؤ القيس، طرفة بن العبد، رامبو، السياب، جون كيتس، تيسير سبول، بوشكين، لوركا، وغيرهم.  كما أن الأربعين تنهي الثلاثينات التي يتلكأ في ضواحيها الشباب. الأربعون عتبة نحو مرحلة عمرية، لا يجوز أن تتصرف فيها، كما كنت تفعل في الثلاثينات. إنها السن التي يمكن أن تقول لك فيها فتاة تدعوها إلى فنجان قهوة إنك في منزلة أبيها.

ما الخمسون؟ إنها التي تأتي بعد الأربعينات. وهي بهذا المعنى تحصيل حاصل. في الخمسين رخاوة. ليست مفصلاً صلباً كما حاول معن أن يبدي. الأربعون هي التي تغادر فيها أرض الشباب نهائياً. في الستين، تقول إن الخمسين سنٌّ رائعة. ما دام في سنّك شيء من الخمسين، فأنت لم تدلف إلى المرحلة التي يُصْرَف فيها لك الدواء مجاناً.. هذا إذا كنت في بريطانيا طبعاً!

 

دلالات
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن