ألا تكون رأيت

15 فبراير 2016
جيوفاني بولديني / إيطاليا
+ الخط -

شيء يتعذّر نسيانه لنصف ساعةٍ على الأقل: الحياة غير عادلة. الألم أيضاً إبريقٌ في قطرة. والهواءْ: الهواءُ كريم مع غيرك، لأسبابٍ مبهمة. أمّا الزهور، العصافيرُ والمرأة، تبقى مثلثاً نظرياً في شارع "الرمبلا"، كما هو الحال في بلادك.

تعود إلى "باي ديبرون"، متحاشياً البيت. تصعد الجبل، وقلبك عازف إيقاع مبتدئ. لأنّ جمالَ بعضهنّ في بلاسا كتالونيا، يصنع الأسى النشيطَ لِبعضِهم في غير مكان. تصعده متمهّلاً باحثاً عن الوقت والخيط والإبرة، كيما ترتق جواربَ ماضيك فحسب.

لقد فتحت عينك كثيراً فرأتِ الغموض ثم أغلقتَها. رأيتَ من ينافح عن الحرية وله رائحةُ معسكر اعتقال. رأيت ظلّكَ وأنت تتبعه في جميع انتقالاته ككلب مخلص. رأيتَ غيمةً فوق تُدحرجُ امرأةً تحت، وقلت إنّ هذا، فضلاً عن فوائده كمحفّزٍ للشهية، لَهُو فكرة مبتكرة لأباطرة الأولمبياد.

أجل، سوف تفتح عينك دائماً لترى الغموض ثم تغلقها، بغض النظر عمّا يسببه ذلك من تقلّصات للقولون. ثم إنّ الرأسمالية بازيلاء مثلجة: الكلغ الأول بـ3 يورو، الثاني بـ2، وكلاهما على وشك الانتهاء. وماذا أيضاً؟ اليوم فاز أحدهم بنوبل.

لست وحدك، الشجرُ أيضاً ممتعض. وأمس كان صباحك بهوائيّات مكسورة، لمرور عواصف إباحية على الحي. وأنت لم تكتب الوجهَ، لنسيانك التحديق في القفا. ومع أن الدنيا "مش ولا بد"، خاصة بعيدَ تقاعُد الهرمونات، إلا أنها لا تخلو من إغراء، وذلك لعونٍ جميلٍ من المخيلة.

كما أنك، لاحقاً، ستعيش في كائن جديد. تقولها جادّاً هذه المرّة ولا تمزح، حيث اكتشفتَ للتوّ أنك نرجسيٌّ آخرُ من إيّاهم. وفي كل الأحوال، فإن اللحمَ يجيء ويروح وعلى المرء في الأخير احترام عظْمِه الذي يشيله. حتى لو كان الكابوس هو قلم اللاوعي الرديء، يكتب على الجسد، أسوأَ الصياغات.

وستأتي صباحاتٌ تبلوَ في علوّ شمسها تحوّلاتٍ من طراز مختلف، تمضغها وتبلعها على معدة فارغة وعقل نصف آهِل: فمن لصّ كُتب في بلادك إلى لصّ تذاكر في بلادهم. تختلف النتيجة لكن التكنيك واحد: الخفّة. وهكذا من لص إلى لص، يُقدّر لك أن تعيش ما تبقّى من سنوات ثقيلة. ولن يُهوّن من وطأة الأمر، حتى لو افتتحت قدماك نهارَهما على الجبل وهما قادرتان على تحديد نسبة الرطوبة في الحصى.

أما اللحظة، فإنكَ مُكتفٍ بسراح أفقك، تستطلع مدار حياتك الإسباني، وتشعر بالدوران. نازلاً عن "كوليسرولا" تتمنى له أن يموت ميتة تليق بجبل أو بفدائي من السبعينات: راضياً مرْضيّاً يكون، حتى يكاد يطير وأنت تجري وراء نعشه. ولربما يهبّ على بالك إذ تفرغ من النزول، أن تحاور هيراقليط وأبا العلاء المعري في محل النقانق.

ستلاقي خايمي السمين هناك، واقفاً على الناصية يُثأثئ كالمألوف، وقد يشارككم حواركم بكتلانيّته ذات اللهجة القروية الحريفة. وربما ـ فمن حقاً يدري ـ تفعلها أخيراً وتكتب جملة تخصّك. جملة لم يطأها حافرُ كاتبٍ قبلكَ ولا أنفُهُ الاستفهامي، وتكون أنت صاحب امتيازها الوحيد. جملة من نوع غير هذه يقيناً: "خطيئةُ أن تستيقظ يومياً، فتعلك ما عُلِكَ، فيركبُك الأرقُ وكَزازُ الفكّ. وكي تنام آنَها، يلزمك شيء واحد بسيط: ألا تكون رأيت".


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة


اقرأ أيضاً: اتّفقوا على سحب الأرض من تحتنا

المساهمون