لو اقتنع فلاديمير لينين بوجهة نظر المناشفة (البيض) تجاه السلطة في روسيا القيصرية في حينه، بدلاً من الإقرار بأن "الانتفاضة فن"، لما قامت ثورة أكتوبر الروسية عام 1917، ولما كان العالم بعد 100 عام ينظر إليها على أنها "الثورة التي جاءت من الشرق" لتغيّر العالم. وربما لكانت روسيا بذاتها قد تفرّعت إلى دويلات متناحرة من القوقاز إلى الوسط الآسيوي. ولو أن ذكرى المائة عام تمرّ بغياب الركن الأساسي فيها، وهو الاتحاد السوفييتي، إلا أنها في مكان ما، شكّلت حقّ الرفض لكل استغلال لإنسان على هذه الأرض، وإن تبدّلت أهواء الثوار وطموحاتهم في العقود اللاحقة، وصولاً إلى عودة البورجوازية بوجهها الأوليغارشي وسياسات الربح السريع في تسعينات القرن العشرين. كان لا بدّ من أن تؤدي التراكمات السلبية للحكم القيصري في روسيا إلى نهاية تعيسة، وإلى استيلاد أمر ما مضاد للسطوة على الفلاحين والعمال في روسيا. الوقت كان العنصر الأهم في ذلك الحين. الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، وقبلها الانهيار العسكري المريع للقوات الروسية في أقصى الشرق ضد اليابان (1904 ـ 1905)، دافع أساسي لتغيير جذري في موسكو وسان بطرسبرغ. الجميع كان متوثباً للسيطرة على مقاليد السلطة. وحده لينين كان يعرف ماذا يريد ويستعدّ للإمساك بالقيادة الروسية وبدء عهد السوفييت.
لم تكن ثورة أكتوبر مجرّد ثورة محلية في بلدٍ محدود، بل إن اتساع قطرها الجغرافي والديمغرافي، ساهم في نشوء حركات مبنية على أسس هذه الثورة، خصوصاً لجهة الاقتناع بـ"ضرورة الاستيلاء على السلطة بالقوة". وهو مفهوم حاول غيفارا تسويقه في بوليفيا والكونغو، مطوّراً إياها إلى مبدأ "حرب العصابات". كما ساهمت في استيلاد "لاهوت التحرير" في أميركا الجنوبية، وأبرز روّادها الأسقف أوسكار روميرو في السلفادور. أما الإصلاح الزراعي، فكان عنواناً جذاباً لقادة في المعارضة في العديد من دول العالم الثالث. أدت تلك الثورة ومفاعيلها، إلى إحداث انشقاق في صلب العالم الغربي، دفعت حتى السيناتور الأميركي جوزيف مكارثي إلى إصدار لائحة سوداء في الولايات المتحدة بين عامي 1949 و1954، اتهم فيها مئات الأميركيين بالانتماء للاتحاد السوفييتي.
غير أنه بعيداً عن الأساليب المعتمدة في ثورة 1917، فقد شهدت عملية تكريس السلطة في قبضة رجل واحد، كجوزف ستالين مثلاً، بدء مسلسل إعدامات وتصفيات مبنية على "الشكّ في الولاء" لا على مدى ولاء الثوار لأهداف الثورة. وهو أيضاً ما أدى إلى نموّ الروح القومية الروسية بصورة سوفييتية، في موسكو وسان بطرسبرغ، ثم استطراداً في الدول التي نشأت على أنقاض الاتحاد السوفييتي المنهار (1917 ـ 1991). لم تتمكن ثورة أكتوبر من الاستمرارية في ظلّ طغيان الفكر الرأسمالي، خصوصاً لجهة التزاوج بينه وبين الاشتراكية بوجهها الحديث من جهة، ولجهة عدم تطوير أفكار الثورة بحدّ ذاتها، على اعتبار أن "الجمود قاتل". وهو ما لم يتداركه الاتحاد السوفييتي في سنواته الأخيرة، لدرجة أن اصطفاف المئات، خصوصاً العمال منهم، في طوابير طويلة أمام أول متجر "ماكدونالدز" في موسكو في 30 يناير/كانون الثاني عام 1990، اعتُبر ضربة رمزية وحقيقية لثورة أكتوبر.
ربما قد يكون من أشد اللحظات إيلاماً في تاريخ تلك الثورة، هو اضطرار آخر زعيم سوفييتي، ميخائيل غورباتشيف، إلى إجراء إصلاحات اقتصادية وهيكلية، والمطالبة بدعم اقتصادي غربي لتأمين استمرارية روسيا ما بعد السوفييت. ومشهد الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران محتضناً غورباتشيف في ليلة لندنية عاصفة، حاول عبرها الأخير الحصول على الأموال الكفيلة بحماية روسيا، عُدّ مشهداً مناقضاً لمشهد ستالين مع البريطاني وينستون تشرشل والأميركي فرانكلين روزفلت في مؤتمر يالطا عام 1945، حين أراد الغرب الحصول على تأييد "الحليف" السوفييتي ضد النازيين الألمان، خصوصاً بعد معركة ستالينغراد (1942 ـ 1943).
كان يحلو لألكسندر الثالث (1881 - 1894) ترداد مقولة لنيكولا الأول (1825 ـ 1855)، وهي "أرثوذوكسية، أوتوقراطية، وطنية"، للدلالة على هوية روسيا ما قبل السوفييت، وربما يبقى هذا الشعار الفعلي لحاكم روسيا اليوم، فلاديمير بوتين، الذي اتخذ من ألكسندر دوغين، منظّر القرن الـ21 الأول في "روسيا الجديدة" أي "أوراسيا التي لا يُمكن قهرها"، رفيقاً له في بعض الظروف. كما أن الدقائق القليلة التي أمضاها "القيصر الروسي" في كنيسة المهد في فلسطين المحتلة، في عام 2012، متأملاً ومضيئاً شمعة، تُشكّل المثال الأكبر لروسيا الجديدة، التي أكدت انفصالها عن ثورة أكتوبر، بإيجابياتها وسلبياتها.