أفلام روسية في البندقية: غوص في الماضي لمعالجة قضايا الحاضر

11 سبتمبر 2020
مشهد من فيلم "الرفاق الأعزاء" (يوتيوب)
+ الخط -

تكشف عروض ثلاثة أفلام روسية جديدة في مهرجان البندقية للسينما هذا العام، عن أن أحداث التاريخ السوفييتي والروسي، لا تزال مصدراً مهماً للمخرجين الطامحين إلى تشريح الواقع الحالي عبر إسقاطات تاريخية لأحداث مفصلية مؤلمة في البلاد، وعرض حبكات قديمة، في بلد لا يزال يبحث في عصر الحداثة عن هوية جامعة وأساليب تفكير تختلف عن أساليب الماضي من دون جدوى.

كما تكشف الأفلام الجديدة عن تشابه المشاكل في بلد شاسع يحتل سدس اليابسة، وضرورة البحث عن طريق موحد للخلاص ينقذ البلاد من خطر السقوط في الهاوية وتكرار المآسي السابقة.

شهدت ساحات المهرجان، يوم الاثنين الماضي، عرض ثلاثة أفلام روسية للمرة الأولى أمام الجمهور. إذْ عُرِض فيلم "الرفاق الأعزاء" المشارك في المسابقة الرئيسية للمخرج أندريه كونتشالوفسكي، و"مؤتمر" للمخرج إيفان تفردوفسكي، وفيلم "صائد الحيتان" للمخرج فيليب يورييف، والذي يخرج عن الإطار التاريخي، ويقدم قصة مجتمعية عن أحلام الروس البسطاء، ونظرة المجتمع لها.
وبعد نحو ستة عقود على مشاركته الأولى في المهرجان بدور في فيلم "طفولة إيفان" للمخرج السوفييتي أندريه تاركوفسكي، يقدم كونتشالوفسكي فيلمه الجديد بالأبيض والأسود والمستوحى من أحداث تاريخية تعود إلى عام 1962، أي إلى ذات الفترة التي شهدت خروجه إلى الساحة العالمية.

وتدور أحداث "الرفاق الأعزاء" في نوفوتشركاسك، جنوب غربي روسيا، التي شهدت يومي 1 و2 يونيو/حزيران 1962 أحداثاً مأساوية ظلت سرّاً من أسرار الدولة حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي. المدينة الصغيرة شهدت إضرابات عمالية واسعة احتجاجاً على ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنحو 30 في المائة، مع خفض الأجور وزيادة ضغط العمل ضمن ظروف قاسية، ما تسبب في تنظيم عمال مصنع القطارات إضرابا وتظاهرات أخذت في التصاعد بعد كسبها تأييد سكان المدينة. وقامت السلطة السوفييتية بقمعها بقوة، لأنها رأت في ذلك نقطة انطلاق لثورة ضد النظام الاشتراكي، ما تسبب في سقوط 26 قتيلاً و87 جريحاً، إضافة إلى الحكم بحبس أكثر من مائة محتج لمدة عشر سنين، بعد صدور أمر من الزعيم السوفييتي نيكيتا خورتشوف بفعل كل ما يلزم لكسر الإضراب ومنع الاحتجاجات، وإرسال عناصر من الجيش بمدرعاتهم إلى المدينة.


ويقدِّم "المحارب القديم" لـ كونتشالوفسكي الأحداث وفق حبكة تاريخية تعكس الصراع بين الشخصيات الرئيسية، وهي مفتشة لجنة المدينة "لودميلا سيمينا"، الممرضة السابقة في الخط الأمامي على الجبهة أثناء الحرب العالمية الثانية، والمؤمنة بقوة بأفكار الشيوعية والنهج الستاليني، وصديقة ضابط الاستخبارات في المدينة التي تجد نفسها في الجبهة المعاكسة لمعتقداتها الأيديولوجية ومثلها الأعلى الرفيق جوزيف ستالين. فضمن عائلتها تنشط ابنتها ذات الثمانية عشر عاماً في صفوف المحتجين. كما أن والدها المتحدر من قوازق الدون يخفي آراءه المعادية للشيوعية طويلاً، ويحتفظ بأيقوناته المسيحية في صندوق في البيت. ويجد الفرصة في إظهارها أخيراً إلى العلن بسبب الإضرابات، ويحض حفيدته على الاحتجاج. ويرى المخرج المخضرم أن شخصية "لودميلا" تعيش صراعاً كبيراً، خاصة بعد فقدان ابنتها في الأحداث، رغم أنها ساهمت بنشاط في قمع المحتجين على السلطة السوفييتية. ويصور أوضاعها النفسية بعدما وُضِعَت أمام تبني خيارات صعبة متناقضة، بين خيار التحول إلى صورة بطلة الأسطورة الإغريقية القديمة "ميديا" أو مواجهة مصير الأسطورة الإغريقية الأخرى "أنتيغون".
ورغم الانتقادات الموجهة للمخرج بسبب اختياره مواضيع تاريخية للهروب من الواقع الذي يضم صوراً لا تقلّ قسوة، فإن الفيلم يُظهر أن كونتشالوفسكي (مواليد 1937) لا يزال في حالة إبداعية نشطة، ويتابع باهتمام تحولات الحياة الروسية. ويرى نقاد كثيرون أن "إسقاط مأساة نوفوتشركاسك مباشرة على الاحتجاجات والقمع اليوم ليس واضحاً بشكل جلي"، لكن الفيلم يوضح أن "المعايير المزدوجة اليوم تشبه المعايير المزدوجة لموظفي الحزب الشيوعي في الحقبة السوفييتية".

أحداث "نورد أوست" المأساوية
وضمن برنامج الأفلام الإبداعية عُرض فيلم "مؤتمر" للمخرج إيفان تفردوفسكي، ويتطرق أيضًا إلى واحدة من أكثر الصفحات المؤلمة في التاريخ الروسي، وهي الهجوم الإرهابي على مسرح دوبروفكا، جنوب شرقي العاصمة موسكو في عام 2002. ولا يزال تعامل السلطات لإنقاذ الرهائن من قبضة إرهابيين ينتمون إلى حركات متطرفة في الشيشان قضية جدلية، مع تحميل أسر بعض الضحايا البالغ عددهم 120 شخصاً السلطات مسؤولية وفاتهم، لأنها لم تؤمّن الحماية أولاً، ولأنها ركزت على موضوع قتل الإرهابيين أساساً، وليس إنقاذ المحتجزين، وذلك بعد استخدامها غازاً مجهولاً حتى اليوم، تسبب في قتل الإرهابيين وعدد كبيرٍ من المدنيين الذين احتجزوا لعدة أيام أثناء حضورهم عرضاً لمسرحية "نورد أوست" الموسيقية. 


الفيلم يعرض المأساة من جانب معاناة "نتاليا" التي اختارت الابتعاد عن دنياها، وقصدت ديراً بعيداً للصلاة والعيش، وبعد 17 عاماً قررت العودة مرة أخرى لتنظيم أمسية تذكارية للناجين الذي عاشوا ساعات عصيبة بين الحياة والموت. ويظهر تأثير السلطة الشمولية في القضايا صغيرة عندما يصر مدير المسرح على أن عقد استئجار المبنى هو لعقد مؤتمر، وليس من أجل تنظيم أمسية تذكارية، انطلاقاً من أنه ليس ضرورياً إثارة ذكريات ماضٍ مؤلم، إذْ يسارع الأشخاص العاديون إلى نسيانه في أسرع وقت ممكن.

سينما ودراما
التحديثات الحية

ويطول حديث الناجين عن ذكرياتهم في الأمسية إلى ما بعد منتصف الليل، ليظهر حارس أمن في القاعة للمطالبة بخروج المشاركين، وفي البداية عبر النصائح، ثم بوقاحة صريحة، وأخيراً، يطردهم بدعم من قوات الأمن من المبنى بعد قطع الكهرباء. وفي هذا المتسع من الوقت يتبادل الحضور شهاداتهم وذكرياتهم حول ما حصل، وكيف عملوا على نسيان الأحداث المأسوية طوال سبعة عشر عاماً، وما هي الكلفة التي دفعوها للتخلص من الصدمة النفسية الكبيرة، والمكاشفات حول الضمير والذاكرة والنسيان. وتتحدث "نتاليا" في الفيلم عن معاناتها الطويلة رغم صلواتها الدائمة للتخلص من عقدة الذنب بعد نجاتها من الحادث وفقدانها زوجها وابنيها الذين لم يستطيعوا مغادرة المسرح. 
المخرج الشاب (30 عامًا) يكشف عن معاناة أبطاله في فيلم لم يحصل على تمويل من وزارة الثقافة، كما هي العادة في الأفلام التي تتطرق إلى أوضاع مؤلمة من وجهة نظر لا تتبنى الرؤية الرسمية. الفيلم الذي لم يركز كثيراً على الخطف ينتهي بغموض ومرارة، ضمن أجواء لا تفتح على إمكانية المصالحة أو بناء عقد اجتماعي جديد للتغلب على العقبات. ويسجل للفيلم طرحه للحدث المؤلم في التاريخ الروسي بهدوء ومن دون هيستيريا، ضمن التزام المخرج بمبدأ الاهتمام الأخلاقي في جميع القضايا حتى السياسية منها.

المساهمون