أفكار متفرّدة تظل في رأسي

31 مارس 2019
("نساء على الجسر" فاتح المدرس/ سورية)
+ الخط -

عزيزي،

ليلة البارحة لم أنم. كما كل ليلة منذ أيام. أُحدّق في اللاشيء طويلاً. طلباً لبعض المؤانسة، أتابع على شاشة جوّالي الصغيرة مسلسلات أميركية، البوليسية منها. الدرامية. حكايات تجعلك تخاف على المجرم أحياناً وتفرح أحياناً أخرى عندما يستطيع وكيل الدولة أن يتغلّب على محامي المتّهم. قصص تكرّس العراقي أو الفلسطيني أو الأفغاني إرهابيين وخطراً يهدّد الجندي الأميركي المسكين أو ضابط الآف بي آي، وطبعاً يحالف النصر هذين الأخيرين ويُلقى بالأسود في السجن. ولا تتساءل لم تشاهد، لأنك تعرف أن أمثال هذه المسلسلات تُتابع في العالم بأسره.
عزيزي

لن أعتذر عن عدم تسليمي المقال البارحة، وذلك لسبب واحد فقط. لقد فهمت اليوم مسألة هامّة جدّاً. كنتَ قد قلت لي في مكالمة هاتفية، بأن الإنسان لا يكتب شيئاً مهمّاً قبل الثلاثين. لديك حق. ما عسانا نكتب قبل الثلاثين؟ إذا استثنينا حالات خاصّة من أمثال رامبو... لا يعيدها التاريخ كثيراً.

فماذا إذاً؟ قبل الثلاثين نشتغل على النجاح في امتحانات آخر السنة، ونهيّئ أطروحة تستغرق بضع سنوات، تسع بالنسبة إليّ، حيث إن الترجمة تستغرق وقتاً أكثر... نعمل عليها بطريقة أكاديمية معيّنة، نعرف من بعد أنّها غبيّة، ونشتغل ليل - نهار كالبغال، غادين ورائحين بين المكتبات المختلفة. يوم الثلاثاء تكون مكتبة السوربون مقفلة، فنروح لسان جون فياف، وأحياناً لباريس الثالثة حيث المشرفة على المكتبة، "جان" السيدة اللبنانية، تتحلى بثقافة جيدة وتعرف ما يصلح من كتب لكل موضوع.

نكتظ بعد ذلك في محالّ الفوتوكوبي لتصوير بعض المواضِع من هذا المرجع أو ذاك، فممنوع أن نصوّر كتاباً كاملاً، حمايةً له من السرقة واحتراماً لعمل المؤلف. هذا على الأقل في عام الفيل الذي درست فيه. أمّا الآن، فالوحش غوغل تجد فيه كلَّ شيء وكلُّ شيء مفتوح للنهب العلني. فانهب ولا حرج، فحتى مدرّس العصر غالباً ما لا يكون يقرأ أو أنه يغترف من الأب غوغل أيضاً.

كانت هناك بغال تتقن عملها وأخرى تحمل الأثقال فقط، كتلك التي تعجّ بها أزقة فاس الضيقة العريقة، ويصرخ بك راكبوها "بليك بليك". يعني احترز من البغل حتى لا يدوسك... المهمّ في الآخر أن جلّ البغال تتسلم شهادة الدكتوراه.

لقد كنت من البغال الذكية، أطروحة جدّ ممتازة، مع تهنئة اللجنة وتحفيزها لي على طبع الكتاب. لجنة فحصت لائحة المراجع ابتداءً من الصفحة الثمانمئة، لعلي أكون قد نسيت تاريخ نشر أو اسم دار أو نسب مؤلف.

ولأنني كنت تلميذة مجتهدة، تجلس دائماً في طاولة الأمام، قضيت ثلاث سنوات أخرى، حاولت فيها أن أتحوّل من بغل تشرب أطروحته غبار الرفوف، إلى بغل عمل على تحويل عمله الأكاديمي إلى كتاب جميل، مكتوب بلغة عالية الجودة، قالت عنها جارتي الفرنسية إن اللغة ومحتوى الكتاب يذكّرانها بمونتاني، وإنها انتبهت الآن أنه لدينا نفس القِيَم. صدر الكتاب عن دار نشر لا يبلغها حتى كبار البغال أحياناً، وهذا ما لم يغفره لي أحد إلى يومنا هذا.

مجمل القول صديقي، أنّه رغم نشري لأعمال أخرى تتطلب همّة البغل ونباهة المبدع... ودواوين شعر وكتباً روائية إلخ، مع مرور السنين نسيت كيف أرجع وأعود بغلاً ذكياً من جديد أو حتى مجرد بغل. واكتشفت جهلي حتى وأنا مليئة بأفكار متفرّدة تظل في رأسي فقط. فلكم ترجمت مخيلتي من كتاب لأبوحيان التوحيدي وابن داوود والجاحظ وغيرهم، وأنا في سريري أتفرج على شاشة جوّالي الصغيرة.

مع الوقت لم يعد كسلي كسل المبدع ولكن كسل البغل العجوز. وكأني أبلوموف، في رواية بنفس الاسم لـ إيفان غونتشاروف... لقد نمت يا عزيزي على ما أنجزته أيّام كنت بغلاً، وتركت ثراء التجربة يضيع بداخلي وصرت أبكي "زمان الوصل" في الموشّح الأندلسي، و"لم يكن وصلك إلا حلماً في الكرى أو خِلسة المختلسِ".


*شاعرة وروائية ومترجمة مغربية، من الأعمال التي ترجمتها إلى الفرنسية "الكتاب الموشّى"، منشورات غاليمار 2004

المساهمون