أفكار متطرّفة في كتاتيب ليبيا

28 فبراير 2018
يحفظان القرآن (طه جواشي/ فرانس برس)
+ الخط -

لا يخفي الليبيون قلقهم وخوفهم من إرسال أبنائهم إلى مراكز تحفيظ القرآن في طرابلس وغيرها، إذ إنّ "المداخلة" يسيطرون عليها اليوم وقد "يسمّمون" أفكار الصغار.

في عام 2010، أُعلِنت ليبيا بلد "المليون حافظ للقرآن" بحسب جمعية الدعوة الإسلامية في طرابلس، الأمر الذي يعني أنّ خمس سكّانها كانوا حينها من حفظة القرآن، بينما تشهد عاصمتها في الآونة الاخيرة تراجعاً ملحوظاً في الإقبال على الزوايا والكتاتيب الخاصة بتحفيظ القرآن.

وكانت هيئة الأوقاف في عام 2010 قد أشارت إلى ثلاثة آلاف و741 مركزاً لتحفيظ القرآن، إلى جانب أكثر من 100 زاوية صوفية تقوم بذلك، وعدد من مراكز تأمين خدمات الإيواء والإعاشة للطلاب. وتلك المواقع كانت تضمّ أكثر من 230 ألف ملتحق لحفظ قرآن، بحسب ما أعلتنه حينها جمعية الدعوة الإسلامية. لكنّ وزارة الأوقاف الحالية لا توفّر عبر موقعها الرسمي أو من خلال المسؤولين فيها، أيّ إحصاء رسمي يبيّن تناقصاً أو زيادة في الكتاتيب والزوايا ولا إقبالاً أو إحجاماً.

تجدر الإشارة إلى أنّ إرسال الأطفال إلى الكتاتيب لحفظ القرآن وتعلم الكتابة فيها قبل الدخول إلى المدارس النظامية، من التقاليد الليبية القديمة والشائعة بين الأهالي. لكنّ عدداً كبيراً من الكتاتيب أقفل رسمياً أبوابه في طرابلس، مثل زاوية الكتاني في جامع القدس وسط العاصمة، وزاوية أبو منجل التي كانت أشهر مراكز العاصمة للتحفيظ، وكذلك زاوية الغرارات.

وتعيد شهادات بعض من الأهالي والمسؤولين أسباب ذلك التراجع إلى اختراق المجتمع من قبل تيار "المداخلة" (يتبعون منهج الشيخ ربيع المدخلي) الذي سيطر على المساجد التي تلحق بها عادة الزوايا والكتاتيب، وقد سعى ذلك التيار إلى إقفالها أو السيطرة على إدارتها. لكنّ أصحاب تلك الشهادات أصرّوا على عدم الكشف عن هويّتهم، معبّرين عن مخاوف مستمرة من سيطرة المداخلة. ويؤكّد في هذا الإطار مسوؤل في وزارة الأوقاف أنّ قوة عسكرية نافذة ومعروفة في طرابلس تقدّم لهم الحماية والدعم، بل وتعتقل من يعترض على نهجهم.


يقول الحاج عبد الله الذي كان يرسل ولدَيه إلى زاوية الغرارات في طرابلس، إنّه "منذ إقفال الزاوية قبل أربعة أشهر، لم أبحث عن مكان آخر يواصل فيه ابناي حفظ القرآن. فأنا لا أرغب أن يتشرّبا أفكاراً متطرّفة تغسل دماغَيهما مثلما حدث مع غيرهما". ويؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ "الكتاتيب بمعظمها يسيطر عليها شيوخ من التيار المدخلي، ويعدّون حلقات دروس للأطفال ويغرسون في أذهانهم أفكاراً عن التكفير والكراهية مؤكّدين أنّهم هم الناجون لا غير". ويشير إلى أنّ "انتماء الطفل عبد المنعم ضويلة إلى تنظيمات إرهابية وتنفيذه عملية انتحارية مؤشّر خطير لفت الانتباه إلى ما يدور في تلك الكتاتيب وماذا يفعل المسيطرين عليها بالأطفال".

وكانت وسائل الإعلام قد تناقلت صوراً لعبد المنعم ضويلة ابن السادسة عشرة، في تسجيل فيديو، وقد أطلق على نفسه اسم "أبو عبد الله الأنصاري"، معلناً عن عملية انتحارية ينفّذها في يناير/ كانون الثاني 2016 في منطقة السدرة النفطية إبان هجوم تنظيم داعش على المنطقة، وذلك قبل أن تنشر الوسائل نفسها تحقيقاً عنه تبيّن فيه أنّه كان يحفظ القرآن في أحد كتاتيب شارع النصر في طرابلس يشرف عليها سلفيون من التيار المدخلي.

المداخلة يسيطرون على مراكز التحفيظ في العاصمة (طه جواشي/ فرانس برس)


من جهته، يؤكّد مسؤول في هيئة الأوقاف في طرابلس تحفّظ عن ذكر هويّته لـ"العربي الجديد"، أنّ "المداخلة يسيطرون على مراكز التحفيظ في العاصمة، والهيئة لا تملك أيّ سيطرة عليها ولا حتى بهدف إحصائها". ويوضح أنّ "بعض هذه المراكز يعمل بشكل ظاهر ويرفض الرجوع إلى إدارة الأوقاف. وقد سعى المداخلة إلى حيل جديدة تبعدهم عن أنظار الرقابة، إذ ألحقوا مراكز التحفيظ بالمدارس التعليمية، خصوصاً تلك التي يديرونها، فيحفّظون فيها القرآن وينظّمون الدروس والدورات للأطفال من دون أن نكون على علم بمحتوى تلك الدروس".

ويشير المسؤول نفسه إلى أنّ "قوّة عسكرية معروفة في طرابلس ينتمي قائدها وجلّ أفرادها إلى التيار المدخلي، هي التي تقدّم لهؤلاء الحماية والدعم". ويؤكد أنّ "الأمر لا يقتصر على طرابلس، فحال مراكز التحفيظ في معظم مناطق ليبيا يشبه الحال في طرابلس"، مشدداً على أنّ "قرار الأهالي بالتراجع عن إرسال أبنائهم إلى هذه المراكز قرار صحيح".


ويتابع المسؤول نفسه أنّ "محفّظي القرآن المعروفين لدى أهالي المدينة اعتزلوا بمعظمهم مراكز التحفيظ بعد التضييقات التي عاشوها. وقد أشار كثيرون منهم إلى أنّ زائرين مسلّحين ينتمون إلى التيار المدخلي سألوهم عن معتقداتهم ودعوهم إلى الانخراط في تيارهم الديني، إذ هو الفرقة الناجية الوحيدة في حين أنّ عقيدة شيوخ مراكز التحفيظ فاسدة". ويوضح أنّ "تلك القوة العسكرية اعتقلت أكثر من 10 محفظين خلال عامَي 2015 و2016 وحقّقت معهم وأمرتهم بترك التحفيظ". ويتحدّث عن "الشيخ الذي كان يتولّى مركز التحفيظ أبو منجل وسط طرابلس، الذي يقيم اليوم في المهجر هرباً من تهديد تلك الجماعة". يُذكر أنّ مجمع أبو منجل الذي كان يقصده أكثر من 800 حافظ وحافظة، أعيد فتحه أخيراً من قبل المداخلة، لكنّ المترددين عليه هم قلّة.

ويلفت أحد محفّظي طرابلس تحفّظ عن ذكر هويته لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "المحفّظين من جيلي والمعروفين باعتدالهم في المدينة، ما زال بعضهم يزاول مهنته. فقد اضطررت وغيري وفاءً لطلابي ومحبّة للأهالي إلى استحداث مراكز تحفيظ في غرف من بيوتنا". يضيف أنّ "طرابلس كانت تضمّ أكثر من 300 مركز تحفيظ يقصدها مئات الطلاب، أمّا اليوم ففي الإمكان رصد عدد أكبر من المراكز، لكن عدد المترددين عليها قليل وشيوخها وطلابها كلهم من أتباع المداخلة ويسمّمون أدمغة الأطفال بأفكار الإقصاء. بالتالي، فإنّ مخاوف الأهالي مبرّرة وواقعية". ويتابع المحفّظ نفسه أنّهم "استخدموا كلّ وسيلة ممكنة للسيطرة على مراكز التحفيظ، بما فيها التفجير. وقد عمدوا مثلاً إلى تفجير زاوية الكتاني في مسجد القدس في أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، وقتلوا شيخ التحفيظ الشيخ النعاس".
دلالات