أفكار في سلة القمامة

06 مارس 2015
+ الخط -

كم عدد الأفكار التي أشرقت في قلبك في هجيع الليل، مع أولى تباشير الإصباح، في ومضات خشوع واستغراق في ملكوت الله، في افتكار وتأمل في النفس والآفاق. سطعت في ذهنك في لحظة إشراق مباغت، لحظة عنفوان وتحدٍ للعالم أجمع، لحظة تجبر على الواقع، في محاولة لقلب موازين القوى، وترجيح كفة الحلم والخيال، تخيلت فيها نفسك قوياً بما فيه الكفاية لإحداث رجة قوية في صدر الحياة، لإعادة ترتيب روايتك بمقدمة أكثر تشويقاً، وعقدة سهلة الحل، وخاتمة طافحة بالإنجازات والأفراح، ثم وجدت نفسك تلقي بأفكارك، الواحدة تلو الأخرى، في سلة القمامة.

لماذا انتهت كل تلك الأفكار الجميلة أحلاما مجهضة في ربيع العمر. لماذا نبذتَ تلك الإشراقات الوضيئة، وفضلت عليها وطأة "الواقع"، لا فسحة الحلم والخيال. كم من فكرة لاقت حتفها في داخلك أولاً، قبل أن تخرج إلى حيز الوجود. كم من فرد يشتَمُّ، الآن، وهو يقرأ هذا المقال رائحة أفكاره الغضة، وقد تيبست في أعماق الروح.

من يتذكر ذلك الكم الهائل من التطلعات المشروعة التي وُئدت، يوم أذعن لمغالطة الواقع الذي لا يرتفع، (ولو كان لا يرتفع ما تحضر الناس، ولا تمدنوا ولا تنافسوا في إبداع أسباب التقدم وفن العيش، والشاهد من أوروبا التي رفعت واقع الخراب، وأبدلته بواقع الرخاء)، يوم تخليت عن الدفاع عن حقك في الحلم، في الريادة، في التفوق، في الصدارة، عن نصيبك من الأمكنة والأزمنة المتعاقبة، عن حقك في المنصب المناسب في تراتبية مهنية معينة، في مناصرة الضعفاء، في إشاعة العلم، في إعمار اليابس، في الإسهام في الرقي والتمدن، في التخطيط والتفكير الحر والإبداع.

يوم فكرت، مثلاً، في ابتكار برنامج عربي أصيل، لمساعدة ضعاف البصر على القراءة، أو تأسيس جمعية استشارة قانونية واسعة الانتشار، ترشد المستضعفين في الأرض إلى حقوقهم، أو إنشاء مركز نفسي واجتماعي قومي، للتخفيف من آثار الاستبداد على الإنسان العربي الجريح، أو إخراج أفلام سينمائية مضادة للسينما الرديئة، المنتشرة كالفطر في قنواتنا العربية، أو تأليف كتاب في فرع علمي غير معروف عربياً، أو أي فكرة أخرى عظيمة بصاحبها وراعيها صغيرة في "عين الحسود"، (يومها) كانت سلة القمامة تنتظر بمكر وسخرية ونشوة سقوط الفكرة في قعرها.

السؤال هو لماذا تنطفئ الأحلام؟ ومتى وكيف؟ ولما تلازمك سلة القمامة ككلب وفيّ، جاهز دائماً لابتلاع أحلامك، وطمس وميضها.

لعلك أقبرت تلك الأفكار الجميلة، يوم استسلمت لفكرة دورة الفقر ودورة الثراء، المال يأتي بالمال، والإملاق يعيد إنتاج الإملاق. يوم تخليت عن السلاح الأكثر فتكاً ونظافة وإحراجا للأكابر ومغتصبي أحلام الضعفاء: طلب العلم. هذا الطريق الفسيح والآمن نحو تحقيق إشراقات الماضي، واستكمال وعوده، ربما لا يكون الطريق السريع نحو تحقيق الذات وممكنات اجتياحها الوجود، مثل المال الموروث والمناصب المغتصبة بحبل القرابات والزبونية، لكنه طريق آمن، وعلى الأقل لا يؤول، متى اقترن بالاستقامة، بنهايات درامية تعيسة، مثل السجن وتلوث السمعة والفضيحة والخديعة والانفصام، ثم الرحيل إلى الآخرة، محملاً بأوزار المستضعفين والفقراء.

وقوف سلة القمامة، غير المرغوب فيه، إلى جنبنا في لحظات الريبة والتردد التي تلي عنفوان الحلم ليس محض صدفة. إنها منتوج اجتماعي، بدأ تصنيعه منذ فقدنا القدرة على الحلم، منذ انتعشت مواسم قطف الأدمغة، وصيد أهل الفكر والأفق. من حينها ونحن نعتبر، من باب اللباقة والواجب، أن نمد أترابنا بسلة قمامة سيكولوجية الصنع، يضعونها قرب المكان الذي تنمو فيه أحلامهم، وتتشكل، ليرموا بأفكارهم فيها عند الاقتضاء.

بيد أن أي فكرة راودتك عن نفسك، دعني أؤكد لك، لم تمت إلا يوم تخليت عنها، ولم تحفظها في حلك وترحالك وروحك ووجدانك، وتجعلها قسما مرسلاً، لا يمضي الزمان حتى تبرّه.

 

 

 

230F9728-6F81-4406-98CC-A52074E82B47
230F9728-6F81-4406-98CC-A52074E82B47
عصام واعيس (المغرب)
عصام واعيس (المغرب)