أفضال صحفي مصري على امبراطور الحبشة (1 من 2)
أين ذهبت أوراق ووثائق الصحفي والمناضل المصري قرياقوص ميخائيل؟
أرجوك لا تنزعج، إذا لم تكن تعرف أصلاً من هو قرياقوص ميخائيل؟ فإذا كان الأستاذ وديع فلسطين لم يعرفه إلا مصادفة، فكيف لي ولك أن نعرفه بسهولة، ونحن، كما تتذكّر، أبناء بلدٍ "آفته النسيان". شخصيا لن أستغرب إذا قلت لي إنك لا تعرف أصلا من هو وديع فلسطين، فليس هذا مستغرباً، حين نعيش في بلد تنزف ذاكرته الثقافية والسياسية منذ قرون، من دون أن تجد من ينشغل بإنقاذها، أو يرى في نزيفها مشكلة، أو يبادر لمعاونة القلائل، من أمثال وديع فلسطين، الذين يبذلون كل ما في وسعهم، من أجل منع ذاكرتنا الثقافية، من أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.
كنت قد قرأت شذرات من سيرة المناضل المجهول، قرياقوص ميخائيل، في كتاب جمع فيه الكاتب المصري الكبير، وديع فلسطين، بعضا من مقالاته التي كتب فيها سِير بعض من عرفهم من أعلام الأدب والثقافة في القرن العشرين، وظل ينشرها سنوات في جريدة الحياة اللندنية قليلة الانتشار في مصر، وكما لم تجد تلك المقالات القيمة من يتحمس لنشرها في الصحف المصرية، لم تجد أيضا ناشراً مصرياً يتحمس لجمعها في كتبٍ، تصل إلى القارئ المصري المهتم بهذا النوع المهم من الكتابة. ولولا أن دار القلم السورية نشرت بعض تلك المقالات، في كتاب يصعب العثور عليه في المكتبات المصرية، عنوانه (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره)، وأن مركز فهد بن نايف الدبوس للتراث الأدبي في الكويت نشر بعضاً آخر في مجلد (من مقالات وديع فلسطين في الأدب والتراجم)، لظلت تلك المقالات القيمة مدفونة في بطون مجلدات صحيفة الحياة، حتى تضيع في غياهب النسيان، كما حدث مع غيرها، أو يأتي باحث يكتشفها في زمن ما، فيوصلها إلى مستحقيها. بالمناسبة، قرأت، أخيراً، حوارا مع وديع فلسطين أجراه الصديق سيد محمود في صحيفة القاهرة، بمناسبة احتفاله بعيد ميلاده الحادي والتسعين، قال فيه إنه منح مكتبته الضخمة لدار الجديد في لبنان. حزنت، لأن مكتبة الإسكندرية لم تبادر إلى شرائها وإتاحتها للباحثين في مصر، ومع ثقتي أن المكتبة ستكون بين أيد أمينة، هي أيدي مسؤولي دار الجديد، لكن أتمنى أن يتيحوها على الإنترنت، ولو حتى بمقابل مادي معقول، لكي لا تظل كنوز مكتبته حبيسة الدواليب إلى الأبد.
أنا زميلك قرياقوص!
كاتبنا الكبير وديع فلسطين نفسه لم يكن سيعرف، أصلاً، بأمر قرياقوص ميخائيل، ولا بسيرة نضالاته، لو لم يكن الرجل المتواضع قد حرص، على الرغم من تقدم سنه، على أن يعرّفه بنفسه في أواخر أربعينات القرن الماضي. كان وديع يومها حديث عهد بالعمل في الصحافة، وكان يجلس في مكتبه في جريدة المقطم، حين دخل على مكتبه رجل أشيب قصير بدين، يستند إلى عكاز، قائلا له بلهجة صعيدية محببة، وبروح ودودة "أنا قرياقوص ميخائيل، هل تسمح لي أن أجلس معك قليلا للتعارف". وعلى رغم فارق السن الكبير بين الإثنين، عرّف قرياقوص المولود في عام 1887 نفسه للصحفي الشاب الذي كان يتابع مقالاته بإعجاب، قائلا "أنا زميل لك، أعمل بالصحافة في لندن، حيث أعيش منذ خمسين عاما، متطوعا لخدمة القضية المصرية وقضايا العرب جميعا"، أخرج الرجل العجوز من حقيبته كتيباً عنوانه (جهاد شاب وطني)، ألفه صحفي مخضرم في "الأهرام"، اسمه توفيق حبيب، ومجموعة أخرى من الكتيبات بالإنجليزية، قائلا له بهدوء "لن أزعجك بالحديث عن نفسي، ستعرف من أنا عندما تطالع هذه الكتيبات التي أهديك إياها"، ثم انصرف معتذراً عن إضاعة وقت الصحفي الشاب الذي تركه العجوز في حيرة كاملة من هذا السلوك الذي لم يعهده من قبل.
حين قرأ وديع الكتيبات، انبهر بما قرأه، من وقائع سيرة رجل خرج من أعماق الصعيد، من دون أن يحصل على مؤهل عالٍ، وبعد أعوام من العمل والكفاح، أصبحت لندن مستقرا له، حيث نصب نفسه فيها محامياً متطوعاً عن قضايا شعبه، حيث كان يتتبع كل المقالات التي تنشر في الصحف الإنجليزية عن مصر، فإذا وجد فيها مقالا يهاجم مصر، أو ينكر حق شعبها في الاستقلال، أرسل رداً على المقال مدعماً بالحجج، وإذا نشرت صحيفة تصريحاً لسياسي بريطاني ضد مصر، تصدّى لذلك التصريح برد يكتبه بمراعاة للتقاليد الغربية، بعيداً عن الطنطنة والخطابية، فيجد رده طريقا إلى النشر، ويصبح، بمرور الوقت، لسان حال الشعب المصري في الصحافة البريطانية، من دون أن يكلفه بذلك أحد، سوى محبته لمصر ودفاعه عن حقها.
كان قرياقوص ميخائيل محظوظاً بمستوى التعليم الذي كفله له والده الذي ألحقه بمدرسة بسطا بك، أكبر مدارس سوهاج وقتها، لينتقل منها إلى كلية الأمريكان في أسيوط، ثم يلتحق بمدرسة الأقباط الكبرى في القاهرة لإتمام المرحلة الثانوية، وكان خلال دراسته مولعا بمراسلة صحف، المؤيد التي أصدرها الشيخ علي يوسف، والوطن التي أصدرها جندي إبراهيم، والإجيبشيان جازيت التي كانت تنشر له بانتظام، ولعل تكرار النشر له جعله يصرف النظر عن الاستمرار في وظيفته مدرساً في مدرسة أهلية في بلدة ميت يشار في محافظة الشرقية، حيث هجر عمله بعد أربع سنوات، أصبح فيها ناظراً لتلك المدرسة، ليسافر في عام 1908 إلى الإسكندرية التي كانت مركزا صحفيا مهما في ذلك الوقت. وهناك، تتلمذ على يدي أستاذ أيرلندي، ليطور كتابته بالإنجليزية، وينشئ بدعم من أسرته "المكتب المصري للأخبار والاستعلامات"، بل ويفتتح في عام 1910 فرعا له في لندن.
مكتبة الأسد الأحمر
بعد أن قام قرياقوص ميخائيل بتطوير أدواته اللغوية والصحفية، لم يقنع بمراسلة الصحف المصرية وحدها، بل قرر مراسلة الصحف الإنجليزية، بادئاً بصحيفة (التيمس) الشهيرة التي أرسل إليها رداً على تصريحاتٍ للمعتمد البريطاني في مصر، السير إلدون غورست، استخف فيها بمطالب الحركة الوطنية المصرية، وحين رفضت الصحيفة نشره، أرسله إلى صحيفة أخرى، هي (بول مول جازيت) التي نشرته في مكان بارز من صفحاتها، فشجعه ذلك على مكاتبة الصحف البريطانية بانتظام. وحين زادت فرصه في النشر، قرر السفر إلى لندن والإقامة فيها، بهدف مناوأة الاحتلال البريطاني في عقر داره، ولكي يكون لمقالاته ثقل أكبر، بعيداً عن فكرة أنها تأتي من مواطن مصري يجيد الكتابة بالإنجليزية. التحق بكنجز كوليدج ومعاهد وكلياتٍ تتيح الدراسات الحرة، حيث درس الصحافة والقانون الدولي وقوانين النشر والقانون الإنجليزي وتاريخ الشرق الأدنى ومبادئ الفلسفة والمنطق وعلم النفس والاقتصاد، وحاول الالتحاق بمعهد الصحفيين في لندن ونادي الصحافة في لندن، للحصول على دبلوم في الصحافة، لكنه تعرض للرفض، بسبب نشاطه السياسي.
ولأن مساهماته الصحفية لم تكن تجلب له أي دخل مادي، قرر قرياقوص ميخائيل أن يبحث عن رزقه، من خلال وسيلة تناسب تفكيره وقدراته، فأنشأ في لندن مكتبة بعنوان (الأسد الأحمر)، تختص بالتعامل في الكتب القديمة والمخطوطات، وقاده بحثه الدؤوب في المكتبات، ولدى هواة جمع المخطوطات، إلى العثور على 800 وثيقة، تعود إلى أيام الخديوي إسماعيل، أغلبها بخط الخديوي نفسه، أو بخط ابنه الأمير إبراهيم حلمي. وحين نشر ذلك في الصحافة، أصدر الملك فؤاد أمره بشراء تلك الوثائق التي كان بعضها يتحدث عن خطط تدبر لعزل الخديوي توفيق، وإعادة أبيه إلى الحكم من جديد. وحين أعلن في الصحف الإنجليزية عن بيع متعلقات المحامي الإنجليزي برودلي الذي دافع عن أحمد عرابي وصحبه من قادة الثورة العرابية الموءودة، قرّر قرياقوص، بمبادرة فردية، أن يدخل المزاد العلني، ويشتري كل أوراق برودلي التي توثق علاقته بعرابي، وأودعها خزانة في البنك، حتى لا تتعرّض لمكروه، وبقيت في حيازته، إلى أن آلت بعد ذلك إلى الحكومة المصرية، في عهد تولي طه حسين وزارة المعارف في إحدى حكومات "الوفد"، وحين حاول ورثة عرابي رفع دعوى قضائية للحصول على أوراق تتضمن رسائل بين عرابي ومحاميه إ.م. برودلي، حكمت المحكمة أن تلك الرسائل ملك لمن أرسلت إليه، وليس لمرسلها الذي تنازل طوعاً بإرسالها عن ملكيته لها، ولم أجد فيما قرأت من دراسات عن الثورة العرابية إشارة إلى مصير هذه الوثائق، وما إذا كان فيها تفاصيل مختلفة عما تم نشره من مذكرات برودلي التي صدرت بعنوان (كيف دافعنا عن عرابي وصحبه).
وكما يروي لنا وديع فلسطين، حرص قرياقوص ميخائيل طوال إقامته في بريطانيا، على الاشتراك في خدمة تتيحها وكالة صحفية، تمده بكل ما ينشر عن مصر في جميع صحف بريطانيا، ليحدد أولوياته في الرد والتعليق والتوضيح على ما ينشر عن مصر وكفاح شعبها من أجل الاستقلال، كما حرص على اقتناء كل الكتب التي تتحدث عن مصر، بل وكان يفتح صفحة المراجع في أي كتاب عن مصر، فإذا وجد فيها مرجعاً لم يسبق له اقتناؤه، كتاباً كان أم مجلة، طاف بالمكتبات البريطانية بحثاً عنه، وإن لم يجده، نشر إعلاناً في الصحف، طالبا شراء المرجع، وكان، في أغلب الأحيان، ينجح في الوصول إلى المرجع، من أناس يمتلكونه في مواقع متفرقة من دول العالم، لتصبح لديه، مع الوقت، مكتبة فريدة تضم أهم ما كتب عن مصر بمختلف اللغات، وظل يحتفظ بتلك المكتبة، ويحرص عليها وينميها، إلى أن تقدم في السن وضعف بصره. للأسف، لم يكن لقرياقوص أبناء، بل إنه حين تبنى صبيا اسمه علي التوني، بعد وفاة والده، وكان ثمرة حب بين مصري وإنجليزية، تم تجنيد الصبي في الجيش البريطاني، في الحرب العالمية الثانية، ولقي مصرعه فيها. ولذلك، خاف قرياقوص على كنزه الثقافي الفريد من الضياع، فبدأ بالتفكير في ضمان مستقبلها بعد وفاته، وحين وصل أمر المكتبة إلى طه حسين الذي كان وزيراً للمعارف وقتها، أمر باقتناء المكتبة، وضمت إلى دار الكتب المصرية، ولا يعلم إلا الله أين ذهبت مقتنيات تلك المكتبة، في ظل الأحوال المزرية التي شهدتها دار الكتب عبر السنين، والتي كنت شاهداً على بعضها بنفسي، والحديث في ذلك شرحه يطول ويؤلم. ومن يدري، ربما كان مصير مكتبة قرياقوص دافعاً لوديع فلسطين لكي يتخذ قراره بإبعاد مكتبته عن مصر بأكملها.
على أية حال، لا زال في حياة قرياقوص ميخائيل جوانب مثيرة وممتعة، نكمل الحديث عنها غداً بإذن الله.
belalfadl@hotmail.com