أغاني ما قبلَ الموت

31 يناير 2015
سيشعر بخفتي ويطير بي (جوزيف براك/فرانس برس)
+ الخط -

أذكرُ أن العتمة كانت أبشع ما في الحرب. حتى أصوات القذائف لم تكن لتوقظ الأرواح المرتجفة آنذاك. اعتادت الاكتفاء بقتل ما بقي منها. أذكر أن الثلاجة كانت مليئة باللحوم والدجاج وبعض الخضار. هذه عادتنا في التموين. نفكر في المستقبل أكثر من اللازم. ماذا لو عجزنا عن شراء الطعام في اليوم التالي؟ لكن لماذا قد يحدث هذا؟ يكفي أنه احتمال قائم في بلد ألفه الموت أيضاً زيادة عن اللزوم. لكننا في اليوم الثاني للحرب، لم نأكل شيئاً من الثلاجة. أعدت النساء اللواتي تجمعن في البيت الكبير البرغل والبندورة.

أذكر أن صوت داليدا ملأ الغرفة التي لجأت إليها هرباً من عيون كثيرة خائفة، وقد تجمعت في غرفة الجلوس. كلّ ما أرادوه أن يسمعوا من المذيع أو المراسل أن الصواريخ ستبقى بعيدة عنهم. يحفظون هذه التحليلات ويرددونها. كأنهم يكتبون قصاصاً ولا يملّون. المهم ألا تصل الصواريخ إلى ذلك البيت.

تغنّي داليدا بينما يردّدون أنهم في أمان. وأنا أفكّر في الحياة. كانت المرة الأولى التي أُقدّرها إلى هذا الحد، وأعيشها على طريقتي. ربما أختار أن أسير عارية في الطريق، أو أصفع زميلا لم يتوقف عن قول أشياء لا قيمة لها، أو أقضي الليل على الكورنيش البحري، يحضنني رجل سألتقي به في هذه الليلة فقط. كلانا يبحث عن هذه العاطفة في هذه الليلة بالذات. ومن يدري، قد تنتهي ليلتنا بقبلة. ليس هذا فيلماً مصرياً. ولو قال الجميع إنه لا قيمة للرومانسية، سأعيشها. هذه الأيام القليلة لي.

ربما أغيّر المشهد. سأطلب منه أن يقف بعيداً، فأركض إليه ويحملني ويطير بي. قبلَ موتنا، لن يكترث للكيلوغرامات القليلة التي اكتسبتها أخيراً. سيشعر بخفتي ويطير بي، قبل أن يكتشفنا الصاروخ. وفي الليل، سأرتدي أحد أثوابي الفضفاضة وأغني في الحانات. وإذا كان ما زال ينتظرني في مكاننا، سأركض إليه مجدداً. كنتُ أعيش أيامي الأخيرة، بينما هم لا يملّون من متابعة التحليلات. وداليدا ما زالت تغني...

أحداث هذه القصة من صنع الخيال. قبل ثلاثة أيام، كانت حربٌ بين لبنان وإسرائيل على وشك أن تندلع. وكان يمكن لهذه القصة أن تصير حقيقة، أو ربما تكون قد حدثت فعلاً في حروبنا الكثيرة السابقة. كأن نقول في حيواتنا السابقة. ربما فكّر البعض في التموين تحسباً للمستقبل. فقد بدا الموت قريباً جداً، لكنْ خجولاً على غير عادته. كأنه يحمل رسالة ما. ربما أراد أن يخبرنا أنه يأتي أحياناً ليذكّرنا بالحياة فقط.
المساهمون