أغاني الشعب وأغاني الحكومة: "معانا ولا علينا؟"

26 مارس 2016
المطرب الشعبي أحمد عدوية (فيسبوك)
+ الخط -
من كلام العامة في مصر "فلان بيغنّي علينا"، بمعنى أنه يحاول خداعنا والتأثير علينا بكلامه. وإذا طبّقنا ذلك المثل على الفن؛ وجدنا أنّنا أمام ثلاثة أنواع من الغناء المرتبط بالناس؛ وهي: غناء الشعب، والغناء للشعب، والغناء على الشعب. فأمّا النوع الأول، فهو ما يسمّى "الأغنية الفولكلورية"، وأما الثاني، فهو "الأغنية الشعبية"، في حين أن الثالث، هو ما يمثل "الأغنية الحكومية".

الأغنية الفولكلورية

توارث الناس جيلاً بعد جيل كمّاً ضخماً من الأغنيات مجهولة المؤلف، تنشِدها جماعات في مناسباتهم المختلفة، دون أي شروط فنيّة معقدة. فكانت لديهم أغاني الأطفال مثل "نامي ننه هوه"، وأغاني الألعاب "التعلب فات فات، وفي ديله سبع لفات"، وأغاني الأفراح "اتدلع يا عريس/ وبس الوله يجي/ وياللي ع الترعة حوّد ع المالح/ واتدحرج واجري يا رمّان"، وأغاني العمال والفواعلية "هيله بيله يا له يا رجّالة". وكان الفلاحون يغنون في أثناء الزرع والحصاد.
كما عُرفَت أغنيات حزينة، اعتادت النادبات أن تؤديها في الجنائز، بمصاحبة إيقاع من اللطيم والعويل، مثل ما كان منتشراً في الواحات، وسجله بعض المستشرقين سنة 1916: "هيا يا صبايا. هيا يا بنات/ هيا يا صبايا هيا السبع مات/ هيا يا صبايا. شيخ النجع مات". تعاقبت الأجيال على الأغنية الشعبية، وكثُرت الإضافات والتعديلات، فنسي الناس مؤلّفها القديم، وصارت ملكيتها الفكرية مستباحة. وقد تنحرف بعض ألفاظ الأغنية، وتغيب بعضُ معالمها الأصلية التي تكشف دلالتها الدقيقة، فأغنية الصبيان بالريف التي تقول: "أبو قردان، زرع فدان، ملوخية وباذنجان فحت في الطين، لقى سكين، دبح أولاده وطلع مسكين". يعلق عليها الأستاذ أحمد أمين قائلاً: "وقد اجتهدت أن أفهم معناها فلم يتيسر لي ذلك!". تأخر تسجيل الفولكلور الشعبي العربي طويلاً، حتى جاء الوقت الذي تغيرت فيه نظرة باحثي علوم الأدب والاجتماع إليه، فتخلّوا عن نظرتهم النخبوية للمنجز الفني لدى العوام. وكان ذلك بفضل جهود نخبة من المستشرقين، وجهوا عنايتهم للطبقات الدنيا ومعايشهم وعاداتهم وتقاليدهم وفنونهم.


الأغنية الشعبية

تراعي الأغنية الشعبية ذائقة الناس أكثر من مطالب النقاد، فيغني مطربُها ما يوافق أهواء العامة وأمزجتهم التي تبحث عن صاحب الصوت القويّ، والإيقاع الصاخب. ومن ناحية الموضوع، عادة ما تحمل الأغنية الشعبية أفكاراً جادة تعبر عن متاعب الحياة وعناءات الكادحين. ومن علامات جاذبيتها، أنها تحمل في طياتها عناصر الحكمة الشعبية. يمكن أن نلاحظ ذلك في الأغاني التي يفضلها أصحاب الميكروباصات وروّاد الأفراح الشعبية. وبالرغم من تعالي النخب الموسيقية والشعرية على معظم تلك الأعمال، ورفضهم اعتبارها فناً حقيقياً؛ فإن بعضها يحظى أحياناً برواج منقطع النظير. عناصر الأغنية الشعبية المذكورة، يمكن أن تتوافر، مثلاً، في الأغنية الرائجة حالياً للمطرب الشعبي "أحمد شيبة" التي تناقش أصالة المواطن المطحون رغم فقره، وعدم انتقامه إذا تحسنت معيشته ودارت الدوائر على خصومه: "آه لو لعبت يا زهر واتبدلت الأحوال/ وركبت أول موجة في سكة الأموال/ أروح لأول واحد احتاجت له في سؤال/ كسر بخاطري ساعتها ودوّقني ضيقة الحال/ أعمل معاه الصح، وأسنده لو مال".




وبالرغم من أن معظم تلك الأغاني صاحبة عبارات حزينة؛ فإن إيقاعها يكون راقصاً ليلبّي حاجة المستمع الشعبي للمرح أيضاً، في تناقض ظاهر بين دلالة الكلمات وتأثر المطرب المتألّم مع أجواء الرقص والنشوة التي تحيط به، وهو أمر يحتاج لتفسير نفسي! ارتباطُ الرقص بالأغنية الشعبية يظلُّ قوياً، بغض النظر عن موضوعها الذي قد يكون جنائزياً، يتحّدث عن الموت، كأغنية "عبد الباسط حمودة": "أبص لروحي فجأة/ لقيتني كبرت فجأة. تعبت من المفاجأة/ ونزلت دمعتي. قوليلي إيه يا مرايتي/ قوليلي إيه حكايتي. تكونش دي نهايتي؟! وآخر قصتي؟!".



أحياناً يكون عدم الترابط بين كلمات الأغنية، وسيلة لإشاعة جو المرح الذي تتطلبه حالة السكر الشعبي، بأفراح بعض الطبقات الشعبية، مثلما هو الحال في أغاني شعبان عبد الرحيم.





يجد نقاد الأدب والموسيقى، العديد من المآخذ على هذا اللون من الغناء، الذي يتفاوت وفقاً لقواعدهم الأكاديمية صعوداً وهبوطاً. لكنهم لن يجدوا وسيلة لإيقاف طوفانه الجارف الذي يستمد قوته من رغبات الجمهور. ومنذ عقود، كانت مبيعات شرائط "الكاسيت"، للمطرب الشعبي، أحمد عدوية، تفوق أضعاف مبيعات أغاني موسيقار الأجيال، محمد عبد الوهاب!
وفي الوقت الذي كانت الصحف تشن هجوماً لاذعاً على الغناء الشعبي، وتصفه بغناء الحواري الهابط، ويمثلون للهبوط بأغان مثل "سلامتها أم حسن" و"السح الدح امبو"؛ كان الروائي الكبير، نجيب محفوظ، يعلن أن أحمد عدوية هو مطربه المفضل.




أغاني الحكومة

برزت الأغاني الموجَّهة مع ظهور الإذاعة، وتحكُّم النظام الحاكم فيما يبثّه للناس، وهو أمرٌ تقلّص كثيراً في عصر الانفتاح الإلكتروني، وانعتاق الناس من أسر موجات الإذاعة والتلفزيون الرسمي. لقد حاولت الحكومات وفنانو السلطة، الاقتراب من النموذج الذي وضعه "جورج أورويل" في روايته (1984)، حيث كان للدولة جهازٌ إعلامي خاص، يقوم بإنتاج الأشعار والروايات والأغاني طبقاً للمواصفات الدقيقة، التي تضعها أجهزة قياس أمزجة الشعب. حب الشعب للحاكم موضوع رئيسي للأغاني الحكومية في المناسبات الرسمية. في الستينات فوجئ الناس بأغنية تتحدث عن لسانهم تقول: "كلنا بنحبك.. ناصر".




ثم فوجئوا أيضاً في السبعينيات بأغنية: "يا حبيبنا يا سادات". كما فوجئوا بعد ذلك بأنهم هم مَن اختار مبارك: "اخترناه اخترناه وعلى حياتنا استأمناه!". أحياناً تصدر الأوامر بإنتاج أغان وطنية لأهداف سياسية مثلما حدث بعد 30 يونيو، فظهرت مجموعة من الأغاني التي يظهر فيها الدور البطولي للنظام، لتحفيز الناس على التعاون معه. وقبل ذلك، كانت بعض الأغاني تقدم رسائل محددة تختصر الوطن في النظام الحاكم.


دلالات
المساهمون