عبثاً تنادي الوالدة ابنتها المراهقة، وعندما تقترب منها، تبتعد وهي تشدّ على جهازها اللوحي. بالنسبة إلى لما المغني (13 عاماً)، والدتها تحرمها من استمتاعها بالألعاب الإلكترونيّة ومن تصفّح الإنترنت. وتسأل: "لماذا لا يتركونني وشأني؟ لا تكاد تمرّ نصف ساعة حتى يبدأ الصراخ والمواعظ التي لا تنتهي".
ولا ينتهي النقاش بين لما ووالدتها، فتقول الأولى: "نحن نعيش في العالم الافتراضي أكثر مما نفعل في العالم الواقعي. حياتنا على الشبكة وليست على الأرض. فما نشهده في الواقع أسوأ من أن يُحتمل".
وترى لما أن على "الأهل تفهّم احتياجات العصر واحتياجاتنا نحن، ماذا نُحب وماذا نكره.. ماذا نريد، وما الذي لا نريده. نحن نبحث عن ذواتنا، ونحاول الاستقلال عن كل قديم لم يعد صالحاً في عصرنا". تضيف: "تعاملنا مع هذه التكنولوجيا يفتح لنا آفاقاً أوسع مما تقدّمه الصحف والتلفزيونات. فبكبسة زر بسيطة مثلاً، وفي أسرع وقت ممكن، تستطيع الحصول على جواب عن أي سؤال يدور في بالك".
إلى ذلك، تعاني سحر الجمل (29 عاماً) مع ابنها مازن، فتعمد إلى إخفاء هاتفه المحمول. هي تسعى دائماً إلى مكافأته عبر تأمين ما يطلب، حرصاً منها على تقدمه واجتهاده في المدرسة. وتخبر: "اضطررت إلى شراء هاتف ذكي حديث، بعد حلوله في المركز الأول بين تلاميذ صفه. لكنني بدأت أندم على عدم محاولتي تغيير المكافأة". وتشكو من أنها تعاني كثيراً وزوجها بسبب إدمان مازن هاتفه الذكي، وذلك مذ عودته من المدرسة وحتى ساعة متأخرة في الليل.
وتشير الجمل إلى أن معظم الأمهات اللواتي تعرفهنّ يستخدمن هذه الهواتف لإشغال أطفالهنّ. وتأسف لذلك، بما أن الطفل في هذه السنّ بحاجة إلى التفاعل مع محيطه، حتى يتمكّن من التعبير، أقلّه لغوياً بشكل سليم. وهو ما تحاول فعله مع ابنها.
من جهتها، تشدّد الاختصاصيّة الاجتماعيّة، فاطمة عبدالله، على دور الأسرة في مراقبة الأطفال وما يتابعونه على شبكة الإنترنت. وترى أن ازدياد تعلق الأطفال بالهواتف الذكيّة والأجهزة اللوحيّة يزيد من انفصالهم عن ذويهم. كذلك، فإن قلة اهتمام الأهل بأبنائهم، يدفع بالأخيرين إلى الاهتمام بالأجهزة الإلكترونيّة والعالم الافتراضي في كل وقت.
وتقول عبدالله: "أعتقد أن على الوالدَين توعية أطفالهما بالقيم والمبادئ الصحيحة، من أجل توجيههم نحو الأفضل"، مشدّدة على ضرورة وجود رقابة من قبل الأسرة.
وترى عبدالله أن المجتمع الذي يعيش فيه الطفل الفلسطيني لا يؤمن له خيارات متنوّعة للترفيه. والرسوم المتحركة التي تُعرض على قنوات التلفزة، أصبحت مهمَلة أخيراً، نظراً لانبهار الأطفال بالهواتف الذكيّة مثلاً. وتلفت إلى أن "الطفل هنا يعيش واقعاً أزماته كثيرة، لذا فإن الساعات التي يقضيها مستمتعاً بالألعاب الإلكترونيّة المتوفّرة في تلك الهواف تُعدّ نوعاً من الترفيه. لكنها في المقابل تعمل على الحدّ من النموّ العقلي الصحيح".
إلى ذلك، تشدّد عبدالله على أن تعرّض الطفل لمؤثرات صوتيّة وبصريّة باستمرار، يؤدّي إلى نقص في الانتباه لديه، بالإضافة إلى تراجع في التركيز والذاكرة. وتقول إن الأطفال هم أكثر الفئات حاجة إلى الاهتمام. وهم يتلقفون كل ما يصلهم من الخارج، سواء أكان سلبياً أم إيجابياً. وتؤكّد على ضرورة أن يتعامل الأهل مع صغيرهم كطفل، وليس كشخص ناضج".
لكنها توضح أن المشكلات التربويّة يجب معالجتها من قبل الوالدَين بحكمة. فمن غير الممكن حجب وسائل الإعلام الحديثة عن الطفل اليوم. هو يختلف عما كان عليه الأطفال قبل عشرين عاماً، وهذا يستدعي توفّر معايير محدّدة تحكم علاقة الأطفال مع تلك الوسائل.
أما الطبيب المتخصّص في علم النفس التربوي، محمود صيام، فيرى أن "تعلق الأطفال بالهواتف الذكيّة يعتمد في الأساس على وضع الوالدَين. فإذا كانا يعملان خارج المنزل، فهذا يعني أن الطفل سيترك لفترة طويلة وحده. وحين يعودان بعد يوم مرهق، لن يتمكنا من مدّ الصغير بالاهتمام المطلوب. بالتالي يرتاحون لانشغاله بالهاتف".
ويوضح صيام أن "الإدمان على الأجهزة الذكيّة يسبّب مشكلات كثيرة، أولها تقييد حركة الطفل. فهو دائم الجلوس في وضعيّة واحدة وأصابعه على لوحة المفاتيح. ويؤدّي ذلك أيضاً إلى التأخّر المعرفي وصعوبات في التعلم وفي اللغة التي تعدّ ضروريّة لاكتساب مهارات التواصل، بالإضافة إلى ما يُمكن أن يسجّل لدى هؤلاء الصغار من نوبات غضب عصبيّة".
ويشدّد صيام على أن "الحلول المضمونة تبقى الاهتمام بتطوّر الطفل الطبيعي. فالأساس هو في عدم ترك الطفل يستخدم أجهزة لا تناسب عمره، وتقسيم وقته بالطريقة الصحيحة التي تشمل خروجه إلى أماكن مفتوحة. كذلك، من المهمّ التواصل معه من خلال طرح بعض المواضيع والردّ على أسئلته بشكل واضح. فالحوار ما بين الأهل والأطفال يشعر الأخيرين بأن ثمّة من يهتمّ بهم ويقدّر التغيّرات التي يمرّون بها". ويلفت صيام إلى أنه في حال أصبحت سلوكيات الصغير تدعو إلى الشك، فلا بدّ أن يستشير الأهل الاختصاصيّين حتى يساعدوهم في إيجاد حلول مناسبة.