ما زال الاحتلال الإسرائيلي يخاف من حجارة أطفال فلسطين، لدرجة أنّ رمي صغير في الرابعة من عمره حجراً على مقربة من أحد جنوده، قد يثير الخوف بينهم ويدفع السلطات إلى اتخاذ تدابير في حقّه.
حين استدعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الطفلَين الفلسطينيَين محمد عليان (أربعة أعوام) وقيس عبيد (خمسة أعوام) من بلدة العيسوية في القدس المحتلة، بمذكرتَين رسميتَين موقّعتَين من الشرطة الإسرائيلية بهدف التحقيق معهما، كان يوجّه بذلك رسالة ترهيب واضحة للفلسطينيين، صغاراً وكباراً. وقد عمدت تلك السلطات إلى تهديد ذوي الطفلَين بانتزاعهما منهم ووضعهما في مركز إيواء خاص تحت إشراف مكاتب الشؤون الاجتماعية الإسرائيلية في القدس بهدف إعادة "برمجتهما وتأهيلهما"، لا سيّما أنّ ضابطاً كبيراً في شرطة الاحتلال أبلغهم بأنّ طفلَيهم "تنقصهما التربية" وبالتالي فإنّ معالجة هذا النقص تكون من خلال انتزاعهما من عائلتَيهما في حال كرّرا رشق جنود الاحتلال ومركباتهم بالحجارة.
وبينما يرفض ذوو الأطفال تسليم أبنائهم لمكاتب الشؤون الاجتماعية الإسرائيلية، يرى معنيون فلسطينيون في منظمات حقوقية محلية تعنى بشؤون الأطفال وكذلك محللون وإعلاميون، أنّ ما حصل مع محمد عليان وقيس عبيد هو توجّه خطير يستهدف الأطفال المقدسيين ويبثّ الرعب في قلوبهم وقلوب ذويهم وينتج جيلاً جديداً يريده الاحتلال خانعاً مستسلماً.
هذا هو محمد عليان (آية يغمور) |
محمد وقيس اللذان كانا يلهوان على مقربة من منزليهما في العيسوية، لم يدركا معنى رشق جنود الاحتلال بالحجارة ولا ملاحقتهما من قبل الاحتلال وإفساد لعبهما، فيما يرفض الأهالي عموماً منع أطفالهم من اللعب على الطرقات وفي الحارات على خلفية اتهامات مثل تلك التي وُجّهت إلى الصغيرَين أخيراً. ويؤكد ربيع عليان، والد محمد، لـ"العربي الجديد": "نحن لن نمنع أطفالنا من اللعب في الحارات، إذ إنّه لا تتوفّر لهم أماكن لهو وترفيه، كذلك لن نكون أداة للاحتلال في مراقبتهم وحراستهم، ولن نسمح لأيّ مؤسسة إسرائيلية بتولي مسؤولية الإشراف عليهم بحسب رغبة الاحتلال". يضيف عليان أنّ "على قوات الاحتلال أن تكفّ أولاً عن اقتحاماتها اليومية لبلدتنا، وألا تتعرّض لأبنائنا بالقتل والضرب والاعتقال، وألا تواصل هدم منازلنا. هي تأتي إلينا بممارساتها القمعية وتريدنا أن نقبل بكل ما تقترفه في حقنا". ويشير عليان إلى أنّ "المضحك المبكي في ما حدث مع محمد وقيس، هو الاتهامات السخيفة لأطفالنا الذين يرعبهم الاحتلال يومياً ثمّ يتّهمهم برشق جنوده بالحجارة".
يتّفق فراس عبيد، والد قيس، مع ما قاله والد محمد، لافتاً في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أنّه "حين تم استدعاؤنا للتحقيق في مركز شرطة الاحتلال بالقدس المحتلة، حذّرني المحققون هناك مثلما حذّروا والد محمد من مغبّة تكرار قيس رشق الجنود بالحجارة تحت طائلة نقله إلى مركز إيواء تحت إشراف مكاتب الشؤون الاجتماعية". يُذكر أنّه عبثاً حاول والد قيس إقناع ضباط شرطة الاحتلال بأنّ طفله كان يلهو حين هرب من أمام جنود الاحتلال الذين كانوا يقتحمون حيّ عبيد وينكّلون بناسه، إلا أنّ ضباط الاحتلال حذّروا الوالد من جديد بانتزاع رعاية طفله منه ونقلها إلى مكاتب الشؤون الاجتماعية الإسرائيلية. لكنّ عبيد لم يسكت، فقال: "لن أسمح لأيّ مخلوق في العالم كله أن ينتزع طفلي من رعايتي. أنا المسؤول الوحيد عن تربيته ورعايته". ويتابع عبيد: "يريدوننا أن نكون مثل قطيع الغنم، يهدمون بيوتنا ويقتلون أولادنا ويضربوننا ويعتقلوننا من دون أن يعترض أحد منّا على كل ذلك. أمّا الحل فهو برحيلهم عن أرضنا". وبلهجة مقدسية يقول: "يفكّوها سيرة!" (نقطة على السطر).
يتجه الاحتلال أخيراً إلى الضغط على العائلات المقدسية، لا سيّما عائلات العيسوية، والتهديد بانتزاع أطفالها من ضمن سعيه إلى تفكيك الأسرة بحملات ممنهجة اعتُقِل فيها أطفال وتعرّضوا إلى الترهيب. ويقول مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، زياد الحموري، لـ"العربي الجديد" إنّه "من الواضح أنّهم يريدون تفكيك الأسرة الفلسطينية في القدس سواء من خلال ما حدث أخيراً من استدعاء أطفال دون سنّ السادسة، أو من خلال حملات الاعتقال اليومية التي تطاول أطفالاً في القدس بهدف ترويع هؤلاء القصّر وعائلاتهم، وذلك بهدف خلق أجيال يسكنها الخوف من الاحتلال فتكون خانعة وذليلة". ويؤكد الحموري أنّ "ما حدث مع الطفلَين محمد عليان وقيس عبيد أخيراً خطير جداً. ونحن نتوقّع من المجتمع الدولي بكل مؤسساته الحقوقية والسياسية أن يصدر موقفاً واضحاً إزاء كل ما يجري، لأنّ استدعاء أطفال في هذه السنّ للتحقيق أو اعتقالهم أمران مخالفان لكل الأعراف والقوانين، وهو ينتهك حقوق الطفل الأساسية". ويوضح أنّ "الأطفال الذين يُرسلون إلى مراكز إيواء أو إصلاحيات، تُعاد برمجتهم وهيكلتهم والتأثير عليهم نفسياً وفكرياً من خلال متخصصين".
لماذا العيسوية تحديداً؟ يجيب الحموري أنّ "هذه البلدة، ومنذ استشهاد الطفل محمد أبو خضير (يوليو/ تموز 2014) من بلدة شعفاط المجاورة، هي في مواجهة مستمرة مع الاحتلال، في ما يشبه انتفاضة شعبية ضد ممارسات الاحتلال القمعية في حق أهلها. فالاعتقالات التي تطاول أبناء البلدة من رجال ونساء وأطفال مستمرة ولا تتوقف، بل إنّ ممارسات الاحتلال تتسع وتمتد إلى خارجها. وهذا ما حدث أخيراً مع فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة على حاجز للاحتلال في خارج البلدة، فهي تعرّضت إلى الإهانة والسخرية عندما عُلم بأنّها من العيسوية".
من جهته، يقول المحلل السياسي والإعلامي راسم عبيدات لـ"العربي الجديد" إنّ "الحرب الشاملة التي تُشنّ على المقدسيين لم تعد تكتفي باعتقال أطفال فلسطينيين فوق سنّ العاشرة وإبعادهم وترهيبهم، بل صارت تطاول أطفال فلسطين ابتداءً من سنّ الرابعة. والاحتلال يريد تحويل أهالي الأطفال إلى حرّاس على أبنائهم لحمايته وحماية شرطته وجيشه ومستوطنيه، فيُعاقَب ذوو الطفل والطفل نفسه في آن واحد إذا أقدم الأخير على إلقاء حجر على دورية شرطة أو مستوطن. وأخيراً استدعي الطفلان من قرية العيسوية للتحقيق، بهدف بثّ الخوف في قلبَيهما وتهديد ذويهما بنقل مسؤوليتهم عنهما إلى مكاتب الشؤون الاجتماعية الإسرائيلية، مع ما خلّفه ذلك من تأثيرات نفسية واجتماعية واقتصادية على الطفلَين وذويهما".
ويشدّد عبيدات على "ضرورة تحرّك كل المؤسسات الحقوقية والإنسانية التي تعنى بالإرشاد النفسي من أجل فضح حكومة الاحتلال التي صارت تمارس البلطجة على المكشوف من دون أيّ رادع يلزمها احترام قواعد القانون الدولي والإنساني والاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية الأطفال". ويتابع عبيدات أنّ "الاحتلال ينفّذ، بطريقة ممنهجة وبقرار من أعلى مستوياته السياسية والأمنية، عملية منظمة للتنكيل بالشعب الفلسطيني وبأطفاله، والهدف خلق جيل خانع ومقموع وفارغ من أيّ محتوى وطني. الاحتلال يريد قتل إرادة الأطفال الفلسطينيين والعبث بوعيهم وذاكرتهم، غير أنّه كلّما تعرّض هؤلاء الأطفال إلى ظلم الاحتلال وقمعه ازدادت قناعاتهم بأنّ لا حرية ولا مكان لهم تحت الشمس كبقية أطفال العالم إلا بزوال الاحتلال".
في السياق، يقول المحامي محمد محمود لـ"العربي الجديد" إنّ "ثمّة هجمة إسرائيلية مستمرة على بلدة العيسوية منذ مدّة، فقد كثّفت شرطة الاحتلال في الأشهر الأخيرة حملات الاعتقال وشدّدت الخناق على السكان. واستدعاء الطفلَين للتحقيق يأتي في سياق تلك الهجمة". يضيف محمود: "نحن قلقون من استغلال سلطات الاحتلال الاتهامات التي توجهها الشرطة الإسرائيلية إلى الأطفال للتضييق على ذويهم واقتيادهم إلى المحاكم لاحقاً من قبل مكاتب الشؤون الاجتماعية الإسرائيلية في القدس، على خلفية الادعاء بعدم رعايتهم أطفالهم، وهو ما يخوّلها اتخاذ إجراءات إضافية ضدّ أهالي البلدة". ويشير محمود إلى أنّ الشرطة الإسرائيلية امتنعت عن التحقيق مع الطفلَين محمد عليان وقيس عبيد لأنّها تدرك أنّ القانون يَعدّ الطفل غير مسؤول عن أفعاله طالما لم يتجاوز 12 عاماً، بالتالي لا يسمح لأجهزة التحقيق باستجوابه".