كانَ في الخامسة من عمره عندما بدأ يُلاحظ الفرق بينه وبين بقية الأولاد. لون بشرته الداكن كان كفيلاً بأن يجعله ذلك "الآخر" أو "المختلف" أو "الدوني" في نظر زملائه ذوي البشرة البيضاء. صار يسألُ كثيراً عن سبب لون بشرته الداكن. لم يفهم لماذا هو مختلف عنهم. كثرت الأسئلة في رأسه، إلى أن واجه والديه الهولنديّين بالأمر. علم حينها أن من يعيش معهما ليسا والديه الحقيقيين، وقد تبنياه خلال الحرب الأهلية اللبنانية قبلَ أن يتجاوز عامه الأوّل.
عاش ستيفن، وهو الاسم الذي منحته إياه عائلته الجديدة، طفولة صعبة. كانَ للحقيقة أثر سلبي عليه على الصعيد النفسي. عانى الأمرين وكثرت الأسئلة في رأسه. من هو؟ من تكون والدته؟ لماذا تخلت عنه؟ هل سيراها ثانية؟ يوماً بعد يوم، صارَ يبتعد عن والديه بالتبني. كانا بالنسبة إليه مجرد شخصين يقومان بإعالته. صارت والدته الغائبة محور تفكيره. رسم لها آلاف الصور في مخيلته. أحياناً، يراها سمراء بعينين زرقاوين مثل عينيه. كان يشعر أنها فقيرة وحنونة وضعيفة. كتب سيناريوهات كثيرة عن أسباب تخليها عنه. كان رؤوفاً معها. لم يلمها أو يحقد عليها. تمنى رؤيتها فقط. رافقته خلال مرحلة مراهقته وشبابه. كان يتابع أخبار لبنان لأجلها. تساءل عن طائفتها، وما إذا كانت لبنانية أو فلسطينية. وصار يتحين الفرصة المناسبة ليعود إلى لبنان ويبحث عنها. آمن أنه سيجدها لا محالة. سيجمع ما تيسر من أوراق ثبوتية ويبدأ عملية البحث.
عدلا وإبراهيم
قصة ستيفن لا تختلف عن قصص كثير من الأولاد الذين ولدوا خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وتبنتهم عائلات أجنبية عبر الكنيسة. وبحسب الإحصاءات، فإن أكثر من أربعة آلاف طفل ولدوا في لبنان، وتبنتهم عائلات أوروبية. كبر هؤلاء وجاء كثير منهم إلى لبنان للبحث عن ذويهم، حاملين بعض الأوراق الثبوتية التي زودها بها أهلهم بالتبني.
تختلف الأوراق التي بحوزة هؤلاء الشباب نسبة إلى الجهة التي تمت عبرها عملية التبني. منهم من يملك جواز سفر لبنانيا من دون ذكر لاسم كنيتهم الأصلية أو أسماء أهلهم. ومنهم من يمتلك ورقة الكنيسة التي تمت عبرها عملية التبني، أو وثيقة ولادة من المستشفى. والأكثر حظاً هو من تحتوي أوراقه على أكبر قدر من المعلومات، فتكون بمثابة خيوط إضافية تساعده على الوصول إلى ذويه.
وحينَ تتقاطع المعلومات، وتتكرر أسماء محددة، قد يدل الأمر على وجود عصابة منظمة كانت تقوم بهذه العمليات في ذلك الوقت، بحسب ستيفن وآخرين من الذين وضعوا في وضع مشابه لوضعه. من هذه المعلومات، مكان ولادة الأطفال، وتحديداً مستشفى يدعى "الأشرفية"، وذكر الكنيسة الإنجيلية الأرمنية في الأشرفية (شرق بيروت). أيضاً، تكرر في الأوراق اسم امرأة تُدعى عدلا، ورجل يدعى إبراهيم ش. تبين لاحقاً أنهما متزوجان. كانا يقومان بتأمين الأطفال من لبنان، ويتقاسمان الأدوار بينهما.
كانت عدلا، وهي طبيبة، تعمل على تأمين الأطفال، في حين يبحث إبراهيم عن العائلات الأجنبية التي ترغب في التبني، بالإضافة إلى شهود للتوقيع على العقود. وعندما تصبح جميع الأطراف جاهزة، تحضر العائلة إلى الكنيسة في بيروت، ليحصل الزوجان على مبلغ خمسة آلاف دولار. اليوم، تعيش عدلا في أمستردام وقد تخطت التسعين عاماً، فيما توفي زوجها قبل فترة.
اللقاء
أخيراً، حطّت الطائرة في مطار بيروت الدولي بعد انتظار دام ثلاثين عاماً. يقول ستيفن إنه ما إن وصل، حتى شعر بارتياح لم يختبره طوال حياته. أكثر من ذلك، فقد شعر بالانتماء إلى هذه الأرض. بدأ عملية البحث استناداً إلى الأوراق التي في حوزته. انطلق من المستشفى الذي ولد فيه، أي مستشفى الأشرفية. فوجد أنه تحول إلى مبنى سكني. لم يعد هناك أي أثر للأطباء أو الممرضات. جلس عند مدخل المستشفى وصار يبكي بحرقة. يقول: "على هذا الدرج صعدت والدتي. في أية غرفة أنجبتني يا ترى؟ هل تخلت عني في حينها؟ هل سمحوا لها برؤيتي؟". بعدها، طرق باب الكنيسة الإنجيلية الأرمنية بحسب المعلومات المدونة في أوراقه. هناك، أكدوا له أنهم لا يملكون أية معلومات إضافية. يوماً بعد يوم، بدا احتمال الوصول إلى الحقيقة مهمة شبه مستحيلة.
لم يستسلم. حاول الوصول إلى الطبيب الذي وقع على وثيقة الولادة. زاره في عيادته لكن الأخير أنكر الأمر وطرده. لم ييأس ستيفن. عاد إليه مرة أخرى إلى أن علم أنه لم يولد في مستشفى الأشرفية، بل في أحد المنازل في منطقة عين الرمانة في بيروت. إلا أن الطبيب لم يستطع تحديد موقع المنزل، مؤكداً أن المعلومات المدونة في الأوراق غالباً ما تكون مغلوطة. خلال زيارته الأخيرة إلى الطبيب، هدده الأخير بالقتل، وحذره من الغوص في هذا الملف.
تواصل ستيفن مع وسائل إعلامية، وراح يروي قصته ويوزع صورته وهو طفل، علّ والدته تراه فتتعرف إليه. سافر إلى أمستردام وزار عدلا التي رفضت التطرق إلى الموضوع. قالت فقط إنها فعلت ذلك لصالح الأطفال الذين تخلى عنهم ذووهم.
سمح له ظهوره المتكرر في الإعلام بالتواصل مع عائلات كثيرة، منهن نساء كن قد تخلين عن أطفالهن في تلك الحقبة، وباتوا اليوم قادرين على الاعتراف. خضع ستيفن لعدد من فحوصات الحمض النووي، إلاّ أن النتائج لم تكن إيجابية، ولم يعثر على أبويه الحقيقيين. مع الوقت، صادق بعض هذه العائلات، التي تزوره بين الحين والآخر.
لا يحتمل ستيفن الابتعاد عن لبنان لأكثر من ثلاثة أسابيع أو شهر كحد أقصى. هنا ينشد السكينة والاستقرار، ويشعر أنه قريب جداً من والدته، حتى أنه يشم عطرها. ينظر في عيون نساء ويراقب ملامحهن. كل واحدة منهن يمكن أن تكون والدته. تعلم صنع بعض المأكولات اللبنانية، ودرس اللغة العربية، وصار له كثير من الأصدقاء. يريد ستيفن أن يصير لبنانياً بمظهره وجلساته وحتى طريقة قيادة السيارة و"عدم التقيد بالقوانين". يقول إنه صار لبنانياً بروحه وقلبه، لا ينقصه إلا التعرف إلى والدته.
عاش ستيفن، وهو الاسم الذي منحته إياه عائلته الجديدة، طفولة صعبة. كانَ للحقيقة أثر سلبي عليه على الصعيد النفسي. عانى الأمرين وكثرت الأسئلة في رأسه. من هو؟ من تكون والدته؟ لماذا تخلت عنه؟ هل سيراها ثانية؟ يوماً بعد يوم، صارَ يبتعد عن والديه بالتبني. كانا بالنسبة إليه مجرد شخصين يقومان بإعالته. صارت والدته الغائبة محور تفكيره. رسم لها آلاف الصور في مخيلته. أحياناً، يراها سمراء بعينين زرقاوين مثل عينيه. كان يشعر أنها فقيرة وحنونة وضعيفة. كتب سيناريوهات كثيرة عن أسباب تخليها عنه. كان رؤوفاً معها. لم يلمها أو يحقد عليها. تمنى رؤيتها فقط. رافقته خلال مرحلة مراهقته وشبابه. كان يتابع أخبار لبنان لأجلها. تساءل عن طائفتها، وما إذا كانت لبنانية أو فلسطينية. وصار يتحين الفرصة المناسبة ليعود إلى لبنان ويبحث عنها. آمن أنه سيجدها لا محالة. سيجمع ما تيسر من أوراق ثبوتية ويبدأ عملية البحث.
عدلا وإبراهيم
قصة ستيفن لا تختلف عن قصص كثير من الأولاد الذين ولدوا خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وتبنتهم عائلات أجنبية عبر الكنيسة. وبحسب الإحصاءات، فإن أكثر من أربعة آلاف طفل ولدوا في لبنان، وتبنتهم عائلات أوروبية. كبر هؤلاء وجاء كثير منهم إلى لبنان للبحث عن ذويهم، حاملين بعض الأوراق الثبوتية التي زودها بها أهلهم بالتبني.
تختلف الأوراق التي بحوزة هؤلاء الشباب نسبة إلى الجهة التي تمت عبرها عملية التبني. منهم من يملك جواز سفر لبنانيا من دون ذكر لاسم كنيتهم الأصلية أو أسماء أهلهم. ومنهم من يمتلك ورقة الكنيسة التي تمت عبرها عملية التبني، أو وثيقة ولادة من المستشفى. والأكثر حظاً هو من تحتوي أوراقه على أكبر قدر من المعلومات، فتكون بمثابة خيوط إضافية تساعده على الوصول إلى ذويه.
وحينَ تتقاطع المعلومات، وتتكرر أسماء محددة، قد يدل الأمر على وجود عصابة منظمة كانت تقوم بهذه العمليات في ذلك الوقت، بحسب ستيفن وآخرين من الذين وضعوا في وضع مشابه لوضعه. من هذه المعلومات، مكان ولادة الأطفال، وتحديداً مستشفى يدعى "الأشرفية"، وذكر الكنيسة الإنجيلية الأرمنية في الأشرفية (شرق بيروت). أيضاً، تكرر في الأوراق اسم امرأة تُدعى عدلا، ورجل يدعى إبراهيم ش. تبين لاحقاً أنهما متزوجان. كانا يقومان بتأمين الأطفال من لبنان، ويتقاسمان الأدوار بينهما.
كانت عدلا، وهي طبيبة، تعمل على تأمين الأطفال، في حين يبحث إبراهيم عن العائلات الأجنبية التي ترغب في التبني، بالإضافة إلى شهود للتوقيع على العقود. وعندما تصبح جميع الأطراف جاهزة، تحضر العائلة إلى الكنيسة في بيروت، ليحصل الزوجان على مبلغ خمسة آلاف دولار. اليوم، تعيش عدلا في أمستردام وقد تخطت التسعين عاماً، فيما توفي زوجها قبل فترة.
اللقاء
أخيراً، حطّت الطائرة في مطار بيروت الدولي بعد انتظار دام ثلاثين عاماً. يقول ستيفن إنه ما إن وصل، حتى شعر بارتياح لم يختبره طوال حياته. أكثر من ذلك، فقد شعر بالانتماء إلى هذه الأرض. بدأ عملية البحث استناداً إلى الأوراق التي في حوزته. انطلق من المستشفى الذي ولد فيه، أي مستشفى الأشرفية. فوجد أنه تحول إلى مبنى سكني. لم يعد هناك أي أثر للأطباء أو الممرضات. جلس عند مدخل المستشفى وصار يبكي بحرقة. يقول: "على هذا الدرج صعدت والدتي. في أية غرفة أنجبتني يا ترى؟ هل تخلت عني في حينها؟ هل سمحوا لها برؤيتي؟". بعدها، طرق باب الكنيسة الإنجيلية الأرمنية بحسب المعلومات المدونة في أوراقه. هناك، أكدوا له أنهم لا يملكون أية معلومات إضافية. يوماً بعد يوم، بدا احتمال الوصول إلى الحقيقة مهمة شبه مستحيلة.
لم يستسلم. حاول الوصول إلى الطبيب الذي وقع على وثيقة الولادة. زاره في عيادته لكن الأخير أنكر الأمر وطرده. لم ييأس ستيفن. عاد إليه مرة أخرى إلى أن علم أنه لم يولد في مستشفى الأشرفية، بل في أحد المنازل في منطقة عين الرمانة في بيروت. إلا أن الطبيب لم يستطع تحديد موقع المنزل، مؤكداً أن المعلومات المدونة في الأوراق غالباً ما تكون مغلوطة. خلال زيارته الأخيرة إلى الطبيب، هدده الأخير بالقتل، وحذره من الغوص في هذا الملف.
تواصل ستيفن مع وسائل إعلامية، وراح يروي قصته ويوزع صورته وهو طفل، علّ والدته تراه فتتعرف إليه. سافر إلى أمستردام وزار عدلا التي رفضت التطرق إلى الموضوع. قالت فقط إنها فعلت ذلك لصالح الأطفال الذين تخلى عنهم ذووهم.
سمح له ظهوره المتكرر في الإعلام بالتواصل مع عائلات كثيرة، منهن نساء كن قد تخلين عن أطفالهن في تلك الحقبة، وباتوا اليوم قادرين على الاعتراف. خضع ستيفن لعدد من فحوصات الحمض النووي، إلاّ أن النتائج لم تكن إيجابية، ولم يعثر على أبويه الحقيقيين. مع الوقت، صادق بعض هذه العائلات، التي تزوره بين الحين والآخر.
لا يحتمل ستيفن الابتعاد عن لبنان لأكثر من ثلاثة أسابيع أو شهر كحد أقصى. هنا ينشد السكينة والاستقرار، ويشعر أنه قريب جداً من والدته، حتى أنه يشم عطرها. ينظر في عيون نساء ويراقب ملامحهن. كل واحدة منهن يمكن أن تكون والدته. تعلم صنع بعض المأكولات اللبنانية، ودرس اللغة العربية، وصار له كثير من الأصدقاء. يريد ستيفن أن يصير لبنانياً بمظهره وجلساته وحتى طريقة قيادة السيارة و"عدم التقيد بالقوانين". يقول إنه صار لبنانياً بروحه وقلبه، لا ينقصه إلا التعرف إلى والدته.