على مدى نحو 13 عاماً وتحديداً منذ عام 2003، يتعرّض أطفال العراق إلى ضغوط نفسية حادة، لا سيّما على وقع التفجيرات والقصف والصواريخ والرصاص. ويُسجَّل ارتفاع في نسبة الأمراض والاضطرابات النفسية، وسط عجز عائلات عراقية كثيرة عن تقديم العلاج لأبنائها. لذا يكثر المعالجون "الروحانيون" و"الراقون" بالقرآن.
عراقيون كثر أدركوا حجم الأزمة، وراحوا يقصدون عيادات الطب النفسي على الرغم من قلتها في البلاد، لعلاج أطفالهم الذين يعانون من أمراض نفسية عديدة، بعدما كانت مراجعة تلك العيادات تثير الحرج لدى كثيرين. وأخيراً، ظهر في البلاد العلاج بالدراما. يقول المخرج المسرحي باسم الطيب الذي راح يعتمد هذه الطريقة لتقديم العلاج للأطفال على خشبة المسرح، "أؤمن بالقدرة العلاجية للدراما والمسرح. لذا أسست مركز خطوة في العاصمة بغداد، وهو الأول من نوعه في البلاد".
ويشير الطيب لـ "العربي الجديد" إلى أن "العلاج بالدراما في المركز يشمل الأطفال والشباب والشابات من الأيتام والمشردين والمهملين في المجتمع العراقي". يضيف أنه "من خلال التمارين المسرحية التي نعطيها للأطفال على خشبة المسرح، نقيس مدى تفاعلهم وقدرتهم على التعبير الجاد ونكتشف نقاط الضعف لديهم ونعالجها. كذلك، ندرّب التلميذات في المركز على فن التعبير ومشاركة الأفكار مع الآخرين، بهدف دمجهن في المجتمع بشكل أفضل". ويتابع الطيب أن "الأطفال يتلقون في المركز دروساً لتحفيز قدراتهم على التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم على خشبة المسرح. وهي تهدف إلى التركيز على نقاط الضعف لدى الأطفال وتحويلها إلى مصادر قوة".
وكان المركز قد افتتح بعرض مسرحي تحت عنوان "بنات بغداد"، حول فتيات يتيمات ومأساة اليتم التي يعانينها، في محاولة للكشف عن مواهب هؤلاء الأطفال وقدراتهن الإبداعية ومنحهن الفرصة للتعبير عن مشاعرهن طريقة متوازنة وراسخة وعدم كبتها، بحسب ما يؤكد متخصصون. بالنسبة إلى هؤلاء، من شأن هذه الخطوة أن تعزز ثقة الأطفال في أنفسهم وإشعارهم باهتمام المجتمع بهم وتوفير الوسائل والإمكانيات لهم بهدف التعبير عن مشاعرهم المكبوتة.
اقرأ أيضاً: هكذا هدّدني تلميذي بالقتل إذا لم أغيّر علاماته
تقول الباحثة الاجتماعية سميرة الملا لـ "العربي الجديد" إنّ "الأطفال في العراق تعرّضوا لضغوط نفسية هائلة لا يمكن تحمّلها حتى من قبل الكبار. وقد انتشرت أمراض نفسية عديدة في المجتمع العراقي لم تكن شائعة من قبل، ليزداد الإقبال على الأطباء النفسيين والراقين بالقرآن ومن يسمون أنفسهم الروحانيين بهدف علاج الأطفال".
وتوضح الملا أن "الأطفال العراقيين خصوصاً الأيتام والمشرّدين منهم، يعانون من مشكلات نفسية، أبرزها فقدان الثقة في النفس وكبت المشاعر. لذا، بهدف منحهم الفرصة للتعبير عن مشاعرهم بشكل أفضل، يُفتح أمامهم مجال التمثيل الدرامي على خشبة المسرح. قد يعيد ذلك إليهم الثقة في النفس والقدرة على التعبير، بالتالي علاج مشكلاتهم النفسية بطريقة متدرجة وفي الوقت ذاته اكتشاف مواهبهم التمثيلية وتطويرها".
من جهة أخرى، يلفت باحثون في علم نفس الأطفال إلى أنّ برامج تنمية القدرات النفسية لدى هؤلاء في العراق غير متوفرة، حتى في المدارس. كذلك لا تتوفر برامج للتنمية النفسية لاكتشاف قدرات الأطفال ونقاط ضعفهم لمعالجتها، وهو ما يجعل الدراما وسيلة فاعلة للعلاج. ويوضح الباحث في علم نفس الأطفال صالح مظفر أنّ "أبرز العقد النفسية التي تنمو مع الطفل هي فقدان الثقة في النفس، خصوصاً لدى الأيتام والمشردين، بالإضافة إلى عدم القدرة على التعبير عن مشاعره. هو لا يعرف متى يضحك ومتى يبكي، ويلفّه الخجل".
ويؤكد مظفر لـ "العربي الجديد" أنّ "الدراما وسيلة ناجعة وجديدة في العلاج النفسي للأطفال، إذ إنها تمنح القائمين على العلاج فرصة كبيرة لمعرفة نقاط القوة والضعف لدى الطفل من جهة، ومن أخرى تمنحه فرصة لكسب الجرأة المسرحية والتعبيرية وتعزيز ثقته في نفسه".
في السياق نفسه، توضح الباحثة في فن التعبير المسرحي منى الوائلي أنّ "المسرحية عرضت كانطلاقة بعدما اختار المخرج باسم الطيب ست فتيات من أصل 26 من مركز دار الزهور لرعاية الأيتام في مدينة الأعظمية في بغداد، لأداء الأدوار فيها. وهؤلاء الفتيات (13 - 17 عاماً) كنّ قد خضعن لتدريب بهدف إزالة الخجل والخوف والرهبة على المسرح".
وتشير الوائلي لـ "العربي الجديد" إلى أنّ "المؤسسات التعليمية العراقية لم تعد للأسف تهتم بالجانب التربوي النفسي للتلاميذ، لذا نلاحظ أن الجيل الجديد لا يملك ثقة في نفسه ويغلب عليه الخجل غير المبرر والخوف والتردد. من هنا، من شأن الدراما أن تمنح الفتيات والفتيان القدرة على التخلص من رهبة الجمهور وبالتالي تعزيز ثقتهم في أنفسهم وإزالة حواجز الخجل التي تمنعهم من التعبير عن مشاعرهم ومشاركتها مع الآخرين".
إلى ذلك، يرى المتخصصون في فن الإلقاء المسرحي أنّ الدراما والمسرح يمنحان الثقة ويعززان القدرات التعبيرية والفكرية لدى الفتيات والفتيان الذين فقدوا ثقتهم في أنفسهم أو يشعرون بإهمال المجتمع لهم. ويقول المتخصص في فنّ الإلقاء التعبيري صادق الزين لـ "العربي الجديد" إنّ "التمثيل والإلقاء المسرحي التعبيري ولغة الجسد عناصر تكاملية للتواصل مع المشاهد. وما يهمنا هنا هو القدرة على التعبير عن المشاعر، وهو لا يحصل إلا بعد تعزيز الثقة في النفس وكسر حاجز الخوف والخجل من خلال التمارين المستمرة". ويشدّد على أنّ "التمارين المسرحية في الأصل هي علاج ناجع للذين يعانون من ضعف الثقة في النفس وعدم القدرة على التعبير والاندماج في المجتمع. ومن الممكن أن ترعى الدولة هذه الفكرة وتنميها وتفتح مراكز علاجية في مختلف المحافظات تحت إشراف أطباء نفسيين ومخرجين مسرحيين في الوقت ذاته".
أما الناشطة بين الأيتام شيماء الدراجي، فتشرح أنّ "لهذه الخطوة وجهين. أولهما علاج نفسي للأيتام والمشردين يساعد على دمجهم في المجتمع وتعزيز قدراتهم التواصلية مع من حولهم، أما ثانيهما فهو إشعارهم بإنسانيتهم واحتواؤهم والحفاظ عليهم من الضياع وسط ما هو حاصل في البلاد".
فتيات دار الزهور
اختُبر العلاج بالدراما بداية مع فتيات مركز دار الزهور لرعاية الأيتام في الأعظمية في بغداد. هنّ اليوم يتدرّبن مع المخرج باسم الطيب على فنون التعبير المسرحية ويستعددْن لعروض مقبلة بعد مسرحية "بنات بغداد"، أولى الأعمال. وسوف يُعمل على تعميم هذه التجربة على المحافظات العراقية، إذ ثمّة أكثر من خمسة ملايين يتيم في البلاد.
اقرأ أيضاً: مدارس طينية خطرة في العراق