أطباق رمضانية تستذكر روح من غاب

06 يونيو 2017
إفطار في مخيّم الخازر للنازحين (كريم صاحب/ فرانس برس)
+ الخط -

عندما تجتمع العائلة، كثيراً ما يُستذكر أفرادها الذين غابوا. وشهر رمضان من المناسبات التي لا يمكن أن تمرّ من دون أن يحضر في البال أعزّاء خسرناهم. هذه هي حال عائلات عراقية.

للسنة الثالثة على التوالي، يحلّ شهر رمضان ولا يشارك محمد النداوي عائلته إفطاراتها. الشاب اختطف قبل ثلاثة أعوام ولا تعرف عائلته أيّ شيء عن مصيره. وللسنة الثالثة على التوالي، تعدّ والدته ما يحبّه "حمّودي" من أطباق لمائدة الإفطار وكذلك السحور. يُذكر أنّ النداوي كان من بين مجموعة من الرجال اختطفتهم مليشيات مسلحة من مناطق سكنهم شماليّ بغداد.

عائلات عراقية عدّة اعتادت على طقوس معيّنة خلال شهر رمضان، وهي اليوم تزداد أكثر فأكثر. تلك الطقوس لم تُطلق عليها أيّ تسمية حتى الآن، إلا أنّها تتعلق باستذكار الغائبين من مفقودين ومعتقلين وقتلى. فتلك العائلات إمّا اعتقل أحد أفرادها أو قتل من جرّاء تفجير أو حادث أمني أو في إحدى مناطق القتال مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وتستذكرهم في شهر رمضان من خلال إعداد أطباقهم الخاصة.

فاطمة المهاوندي، على سبيل المثال، تحرص في كل رمضان، مذ قُتل ولدها نذير بعد اختطافه في عام 2010، على أن يكون طبقه المفضل "مرق الفاصولياء" حاضراً على مائدة الإفطار. كذلك تحرص على أن يقدّم عصير البرتقال الطبيعي بعد الإفطار. وتقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "ولدي كان يحبّ عصير البرتقال كثيراً، وكان يحبّ تناوله ما بين الإفطار والسحور.
لذا صار شرابي المفضل، بل شراب العائلة كلها".




من جهته، يحاول حسن العواد التخفيف عن أحفاده الثلاثة الصغار الذي يستذكرون باستمرار والدهم الذي فقدوه قبل عامَين. يقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "أكبر أحفادي الأيتام لم يتجاوز عامه العاشر، وهم يصرّون على زيارة قبر والدهم في اليوم الأول من شهر رمضان". ويشير العواد إلى أنّ "ولدي قتل بعدما اختطف من قبل المليشيات". يضيف أنّ "الوضع كان متوتراً ومخيفاً للغاية في مناطقنا (غربي بغداد)، لا سيّما في الفترة التي احتلّ فيها داعش الفلوجة والأنبار". أحفاد العواد على قناعة بأنّ والدهم سوف يعود إليهم، وهم بحسب ما يقول جدّهم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه: "يحتفظون بأشيائه التي يحبّها، وأكثر من ذلك يصرّون على تناول ما يحبّه من أطباق. كذلك يرفضون شرب الحليب لأنّ والدهم لم يكن يستسيغه". ويؤكّد أنهم "كانوا يحبّون شرب الحليب كثيراً، هؤلاء الصغار، لكنّهم ما عادوا يفعلون".

لا تختلف حال النازحين العراقيين الذين هُجّروا من مناطق الصراع التي كانت تحت سيطرة "داعش" والذين يسكنون في مخيمات النزوح، عن مواطنيهم العراقيين الآخرين. هم يستذكرون كذلك أفراداً من عائلاتهم فقدوهم خلال فترة نزوحهم. عباس الدليمي، على سبيل المثال، نازح من مدينة القائم (غرب)، وهو على الرغم من أوضاعه المادية الصعبة، أعدّ مأدبة إفطار لجيرانه النازحين في مخيّم السلام، جنوبيّ بغداد "عن روح أمّي التي توفيت منذ أكثر من عام".



يقول الدليمي لـ"العربي الجديد"، إنّ والدته توفيت "بعدما ساهمت عملية النزوح في تفاقم أمراضها. كانت تعاني من مرض القلب ومن ارتفاع في ضغط الدم". يضيف أنّها "لم تستطع الصمود طويلاً وهي تراني وأطفالي نعاني من مأساة النزوح ونواجه مخاطر الموت ثم نسكن في خيمة بعدما كنّا نملك داراً واسعة. فماتت على أثر إصابتها بسكتة قلبية". يُذكر أنّ أعداداً كبيرة من سكان المدن التي سيطر عليها "داعش" نزحت منها منذ عام 2014، قبل أن تشهد المدن ذاتها معارك ضارية، إذ أطلقت الحكومة العراقية حملة عسكرية لاستعادتها. على خلفيّة ذلك، انتشرت في مناطق مختلفة من البلاد مخيمات لإيواء النازحين لم تتوفّر في أغلبها الخدمات المطلوبة، لا سيّما تلك التي تساعد على تحمّل الأحوال المناخية السيئة، وهذا ما أدّى إلى إصابة كثيرين من النازحين بأمراض، خصوصاً الأطفال وكبار السنّ.

إلى ذلك، تمكّنت عائلات نازحة عدّة من العودة إلى منازلها وأرضها بعد تحرير مناطقها، وينطبق ذلك على تلك المناطق التي لم تتعرّض إلى تخريب كبير والتي نجحت الحكومات المحلية في إعادة الخدمات إليها. في مدينة الرمادي على سبيل المثال، عادت الحياة مجدداً إلى عدد كبير من أحيائها وأسواقها. ومن بين المشاهد التي راحت تنتشر في رمضان هذا العام، توزيع وجبات إفطار باسم مفقودين وقتلى تسبّب "الإرهاب" و"المليشيات" في غيابهم عن ذويهم.

الحاجة هدية حمد، على سبيل المثال، فقدت ابنها وشقيقها وعدداً من أقاربها في خلال العامين الماضيين، "قتلوا جميعهم على أيدي داعش". تقول لـ"العربي الجديد"، إنّ ابنها وشقيقها "كانا يقاتلان التنظيم، وقتلا أثناء مواجهات معه قبل تحرير مدينتهما". تضيف أنّه خلال محاولة مجموعة من أقاربها الفرار من المدينة التي كان يسيطر عليها داعش في اتجاه مواقع للقوات العراقية، أطلق عناصر التنظيم قذائف نحوهم فأردوهم قتلى. وتتابع: "كان بينهم أولاد إخوتي وأخواتي وأطفالهم الصغار". وتشير حمد إلى أنّها تفتقد للسنة الثانية على التوالي، "ولدي وشقيقي وأقاربي خلال رمضان. ولدي كان يحبّ تناول شوربة العدس الحمراء بالبطاطا في هذا الشهر، وشقيقي كان يحب تناول الدجاج المشوي في التنور. لذا أحرص على إعداد هذَين الطبقَين يومياً وتوزيعهما على جيراني، ثواباً عن روحَيهما وأرواح جميع أقاربي الشهداء".