أطباء ومهندسون في سبيل السماء

13 نوفمبر 2014
لا توجد دراسات علمية جادة توضح هذا الرابط العجيب(Getty)
+ الخط -

لماذا تبدو عناصر المحافظة الدينية والتشدد في ثقافتنا مرتبطة بخريجي الكليات العملية، بل والقمة، كالطب والهندسة، أكثر من غيرهم؟ إذا أخذنا جماعة الإخوان المسلمين مثالاً، وهي جماعة توصف بالمحافظة الدينية، إذ يتشكل بداخلها قطاع مهني ضارب، من محامين وأطباء وغيرهم، وهذه الكتلة التقنية تتصدر القيادة منذ الثمانينيات، حيث يشكل القطاع الهندسي والطبي الوزن الأكبر مالياً وإدارياً في الجماعة. وقسم المهنيين الإخواني كان طرفاً في صراعات كبرى طوال تاريخ الإخوان، لا سيما في الثمانينيات والتسعينيات، ومن داخله خرج برنامج حزب الوسط، وقبله أحزاب الإصلاح والأمل، وخرج مقترحوها مع برامجهم.

وقسم المهنيين هو قطب التقاليد الحركية، ومنه سطعت القيادات المهمة والأكثر محافظة، مثل مصطفى مشهور، وهو من أقطاب التنظيم الكبرى، كما أنه خريج علوم ومن قيادات التنظيم الخاص، محمد حبيب، أيضاً، نائب المرشد السابق، وأستاذ في كلية العلوم، والمهندس خيرت الشاطر النائب الثاني، فضلاً عن أن الوزن النسبي لقيادات مكتب الإرشاد الصاعدة تربوياً والمجازة فكرياً وسياسياً معظمهم من خريجي تلك الكليات، بينما يحل خريجو الكليات النظرية في مرتبة متأخرة لاسيما الشرعية منها.

والمهندس محمد علي بشر، والمهندس حسام أبوبكر، وأستاذ الزراعة محمود غزلان، المتحدث الرسمي، والطبيب محي حامد، والمهندس سعد الحسيني، والمهندس سعد الكتاتني، والطبيب مصطفى الغنيمي، والجيولوجي رشاد البيومي والطبيب محمد وهدان، الذي كان مسؤولا للقسم التربوي، أهم أقسام الجماعة، يستثنى من ذلك، الشيخ عبد الله الخطيب، والدكتور عبد الرحمن البر، وهما أزهريان.

الأمر كان محل استهجان قيادي إخواني سابق، هو أستاذ علم النباتات، سيد عبد الستار المليجي، الذي يرى أن منصب المرشد العام يجب أن يكون من نصيب عالم أزهري شرعي، وليس بين يدي أستاذ في الطب البيطري، هو محمد بديع، المرشد الحالي. وصعود تلك القيادات في ظلال محافظة دينية وفكرية منتشرة، يشي بالكثير عن القدرات التنظيمية العالية، والسرية، والانتمائية، والولائية الشديدة لهؤلاء التكنوقراط.

كان عالم الاجتماع المصري سيد عويس قد ذكر في إحدى دراساته أنه كان يسأل حسن البنا كثيرا عن سر اهتمامه بطلاب جامعة القاهرة العلمانية عن طلاب جامعة الأزهر، فكان يجيبه بأن أبناء الجامعة المدنية هم الأكثر احتياجا للدعوة والهداية من الأزهرية، وقد زالت اندهاشة عويس من إجابة البنا بعدما رأى توسع الإخوان في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وحاجته للقيادات المدنية الدهرية.

اللافت أنه تزامناً مع هذا التوجه الديني المحافظ للشباب التكنوقراطي الإخواني في فترة الأربعينيات كانت جموع من الشباب القبطي المثقف التكنوقراطي تتجه نحو الأديرة، وكلهم مجمِعون على أن قوة الأقباط تبدأ من الكنيسة التي تكمن قوتها في الأديرة. وهو أمر لم يكن معتاداً في تاريخ الكنيسة المصرية، وكان من أشهر هؤلاء البابا شنودة والأب متى المسكين والأنبا صموئيل، والأنبا اغريغوريوس، ولحق بهم العشرات من خريجي الكليات المدنية وهم من أضافوا أبعاداً قوية وجديدة للكنيسة والحياة الديرية.

والمثير في هذا الجيل، أنهم بعدما ترهبنوا وتوحدوا في الصحراء، عادوا مرة أخرى للترشح في المناصب الكنسية، والمفترض عادة أن سالك الرهبنة والتوحد في الجبل يقاوم العودة والانخراط المدني، والتساؤل هو: هل تبدو تلك الفترة هي مرحلة الإعداد لتبدأ مرحلة الإصلاح؟ وهل هذه المراحل تشبه مراحل التربية العقائدية الأولية، ثم تبدأ مراحل التنفيذ؟ المفارقة تلوح هنا بين صىحراء الوادي وضجيج ميدان العباسية؟ والأمر نفسه تم داخل الكنيسة الإنجيلية ووعاظها المشهورين أمثال منيس عبد النور وسامح موريس، وإيهاب الخريط ودانيال البراموسي وغيرهم الكثير من خريجي التكنوقراط أطباء ومهندسين. كما برز في تلك الفترة أي الأربعينيات، نشاط جماعة الأمة القبطية ومعظمهم من خريجي الكليات العملية بحسب ما قال لي مؤسسها ابراهيم فهمي هلال، وعلى حواف ذلك برز جيل الاقباط المتفوق دراسياً في الكليات العملية وشغل معظمهم موقعاً متقدماً في القطاع المهني المصري. وجمهور التكنوقراط القبطي ظل هو القطاع الأوفى للكنيسة بعد أن تراجعت قوة الأراخنة أو الأعيان من العلمانيين بعد الاجراءات الناصرية الاقتصادية.

وبالنسبة لجماعات العنف فإن أول مجموعة جهادية نشأت في مصر عام 1964 في القاهرة، بحسب الباحث عبد المنعم منيب، وكان أبرز مؤسسيها ثلاثة، هم علوي مصطفى (من حى مصر الجديدة) وإسماعيل طنطاوي (من حى المنيل) ونبيل البرعي (من حي المعادي) وكانوا جميعاً طلبة في الثانوية العامة وقتها، ولقد تخرج إسماعيل من كلية الهندسة بجامعة الأزهر فيما بعد، كما تخرج علوي من كلية الهندسة أيضاً. لحق بهم بعد ذلك أيمن الظواهري، ومصطفى يسري، وسيد إمام وكلهم أطباء، وشكري مصطفى مؤسس "جماعة المسلمين" خريج الزراعة، محمد عبد السلام فرج مؤسس تنظيم الجهاد، خريج هندسة أيضاً، والطبيب سيد إمام. وما اختطه هؤلاء التكنوقراط مثل أهم التنظيرات الجهادية، للتيارات الدينية المتشددة، وهي الكتب التي قدمت تفسيراً لاهوتياً للتاريخ، وللهزيمة والنصر، والموقف من الحكم والتكفير، وحتمية المواجهة والعدو القريب والعنف الديني، والموقف السلبي من الأقليات وغيرها.

أما طلاب الفنية العسكرية، وهم مهندسون على درجة عالية جدا من التخصص، فقد كانوا هم القطاع العسكري الوحيد الذي حاول القيام بعمل مسلح جماعي داخل الجيش بقيادة صالح سرية، الحاصل على الدكتوراة في التربية والعلوم.

وفي حوار مع الكيميائي عبد المالك دروكدال، قال القائد العام لـ«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، نشره التنظيم المسلح على موقعه الإلكتروني عام 2005، إن مقياس التحكم في التكنولوجيا كان أساس «تدرجه» في المسؤوليات ضمن كتائب العمل المسلح.

مع الصعود التكنوقراطي الديني حدث توسع في اتجاه خلق مساحات دينية علمية وعظية، تحت لافتات الإعجاز العلمي وخلافه، فشاع طب الحجامة وبول الابل والوخز، وذلك من قبل أطباء ومهندسين تقويين، فضلاً عن تصاعد ظواهر العلم والإيمان، والاشراقات القرآنية بالنظريات العلمية على غرار توسعات عالم الجيولوجيا المصري زغلول النجار، الذي قدم القرآن ككتاب علمي طبيعي، وتمت أسلمة الكونيات، تماهياً مع الأسلمة للمعارف الانسانية، وبات لهذا الدرب منتديات ومؤتمرات وأخصائيون خريجو كليات مدنية حديثة وحصلوا على مراكز متقدمة جداً في التأهيل العلمي، كل مهمتهم أن يبرهنوا أنّ ثمة عمقأً روحياً ورياضياً وهندسياً وطبياً للكتب المقدسة، وهي علمنة للكتب المقدسة على نحو أدق. وبات للمثقف التقني معنيان لسرديته الدينية، أحدهما مستقى من تخصصه الدقيق التقني، والثاني يتحدث عنه الباحث الفرنسى جيل كيبل، بـ"أن سياسات التعليم المدني المصري الناصري، أدّت إلى تفتق شريحة متعلمة تطمح إلى تجاوز الوساطة التي كان يفرضها رجال الدين على النصوص المقدسة".

ولا توجد دراسات جادة توضح هذا الرابط العجيب، بين التفوق الدراسي أو التخصص في العلوم التطبيقية والتوجه محافظة أو تشددا، وبالطبع ليس هناك عامل أوحد وحيد لتفسير ذلك التوجه. ومن المهم الحذر عند تفسير تلك الظواهر حيث يجب أن تخضع لتوازي معرفي تركيبي.

فهل نمط التعليم التقني في بلادنا يفرض على صاحبه أحياناً هوية محددة وربما حادة، مما يجعله قريباً من الفكر المحافظ؟ باعتبار أن المحافظين ميالون إلى تحديد الهوية والفكر إلى عناصر محددة وحادة وهو ما يتوافر مع العقل الاجرائي التقني اليقيني! أم أن من مجالات تلك الدراسات أحياناً، ما يولد حالة من الاغتراب الثقافي يدفع للبحث عن بديل روحي وجداني لاسيما أن دارس الرياضيات العربي قد يستغرق عقوداً في دراسة الرياضيات والهندسة والطبيعة والأحياء دون معرفة للأسس الفلسفية لتلك العلوم، وفهم تطورها التاريخي كما كان الحال قديماً حينما كانت تدمج الفلسفة الاسلامية بين الطبيعيات والإلهيات. ليحل الاعجاز العلمي كحالة تعويضية محل فلسفة العلوم من حيث الجدوى والمعنى والربط بين الله والعالم أو كما يقول هربرت ماركوزا في كتابه "الانسان ذو البعد الواحد" إلباس تلك القيم العلمية هيبة ميتافزيائية (الشريعة، والقانون الأخلاقي ) .. ليصبح اليقين العلمي للمعادلات، متكاملا مع اليقين الديني النصي، متمما لتنافذ روحي تقني اجرائي وفق أسس الشمولية الدينية الحركية.

ومن المؤكد أيضاً أن حاسة الاغتراب الشديدة التي أورثها النمط الاستهلاكي لتلك الدراسات خلقت نوعاً من الحنين للروحانيات والوجدانيات، ومشهور في ثقافتنا هجران أطباء وعلميين لميدانهم التقني إلى الأدب والموسيقى والشعر والغناء، حنيناً إلى المضمون، وانتقالاً من التقنية إلى التأمل.

المساهمون