الطريق إلى أوروبا دونها مخاطر ومصاعب لشبان أفارقة يعيشون في برد شمال المغرب. وجد هؤلاء أنفسهم عالقين داخل غابة، يستجدون الطعام والمال على الطريق السريع ويتحملون ملاحقات قوات الدرك لهم.
في الطريق إلى غابة بليونش، شمال المغرب، ينتظر ثلاثة مهاجرين كاميرونيين شبان السيارات حتى يحصلوا على طعام أو ماء أو نقود. غريزة الجوع لديهم أكبر من أي شيء. لا رغبة لديهم في الكلام. يميلون وجوههم باتجاه الطريق، وهم يربطون قوارير ماء بحبل على أكتافهم. يفرحون كثيراً بسائق إحدى السيارات المارة عندما يقدم لهم سجائر يدخنونها بشغف. يقول أحدهم باقتضاب: "لم نأكل منذ يومين".
في الجوّ الماطر فوق بليونش، من الصعب الدخول إلى الغابة والتعرّف على المكان الذي يعيش فيه حالياً نحو 200 مهاجر من دول جنوب الصحراء. يتحدث الكاميرونيون الثلاثة إلى "العربي الجديد" بالفرنسية في المكان القريب من قرية "البيوت". يتناولون الحليب والخبز ويقولون إنّهم جاءوا من بلدهم قبل ثمانية شهور، مروراً بالجزائر التي عملوا فيها مدة قصيرة. أما هدفهم فالعبور إلى أوروبا. دفعوا مقابل ذلك ألف يورو تقريباً.
يقول الشبان الثلاثة، الذين يرفضون البوح بأسمائهم خوفاً من تعقب السلطات المغربية لهم، إنّهم لا يملكون طريقة محددة لدخول إسبانيا عن طريق سبتة (المحتلة)، إنما المهمّ أن يصلوا في سلام.
يشيرون إلى وجود مرضى في الغابة، وبعض المصابين. وهو ما يؤكده ابراهيم، المهاجر من غينيا. يقول إنّهم "مرضى نتيجة الجروح التي تسببت بها حوّاف السياجات حول سبتة". أما حميد، المهاجر من غينيا أيضاً، فيقول لـ"العربي الجديد" إنّ "أغلب المرضى هم مرضى الجوع والبرد".
في اتجاه الجنوب
على الطريق الواصل بين بليونش ومدينة الفنيدق، شمال المغرب، تتمركز دوريات الدرك الملكي (الشرطة). وإن توقف أحد مع المهاجرين، وأطال الوقوف، سيأتي أحد القُيّاد (أفراد الدرك) ويسأل عن أوراقه. من جهتهم، يواجه المهاجرون مطاردات الدرك دورياً. يعتقلهم هؤلاء ويدونون بياناتهم في أحد المراكز الرسمية القريبة، ثم يضعونهم في باصات باتجاه مدن الجنوب كأغادير أو تزنيت أو ورزازات وغيرها.
يحصل المغرب مقابل هذه العملية على مساعدات مالية من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً إسبانيا التي كانت أول الدول الأوروبية الموقعة على اتفاقية مع المغرب عام 1992 تتعلق بتنقل الأشخاص والعبور وإعادة قبول الأجانب الذين دخلوا بصفة غير قانونية. وتنص على السماح للسلطات الإسبانية بإعادة المهاجرين غير النظاميين المتسللين إلى إسبانيا سراً إلى الأراضي المغربية، سواء أكانوا مغاربة أو من دول أخرى، فوراً وفي أجل لا يتعدى عشرة أيام في إطار لجنة مشتركة. وتدرس إجراءات ومعايير التعويض المترتب عن إعادة قبول الأجانب المبعدين. وتنظم أجهزة لمراقبة الحدود وتجهيز وتأهيل المكلفين بمراقبة الحدود. وتنصّ المادة الخامسة على أن يرحّل المغرب المهاجرين غير النظاميين في أقرب وقت إلى بلدهم الأصلي.
بدوره، يطالب "مرصد الشمال لحقوق الإنسان" بإلغاء هذه الاتفاقية بحسب مدير المرصد محمد بنعيسى الذي يقول إنّ "التفعيل الميداني للاتفاقية يشكل انخراطاً للدولةاللمغربية في انتهاكها الواضح للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وتوجهاً مناقضاً لتوصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان. كذلك، فإنّ إعادة الناس عبر الحدود من دون مراعاة الإجراءات القانونية السليمة، أو التأكد من الحماية تشكل انتهاكاً للقانون الدولي والأوروبي، فميثاق الاتحاد الأوروبي يقرّ بوجود ضمانات إجرائية لإعادة المهاجرين غير النظاميين".
لا نساء في الغابة
تحت سقف غرف الانتظار المبنية على طوال الطريق، يصل الغيني حميد ركضاً. وصل إلى المغرب قبل عامين ويتقن المغربية الدارجة جيداً. يقول عن حياته الجديدة بعدما انتقل مؤخراً إلى الغابة: "جئت من أجل الهجرة. أقطع يومياً مسافة ساعتين من عمق الغابة حتى الشارع بحثاً عن الطعام وقليل من المال".
ترك حميد أمه وحيدة في غينيا. يبدو مشتاقاً لها. يقول: "أشحن هاتفي في الحانوت القريب منّا بدرهمين (أقل من ربع دولار أميركي) لأتمكن من محادثتها". يتابع: "أريد أن أهاجر لأعمل وأتزوج وأبني بيتاً وأشتري سيّارة. الحياة في الغابة صعبة جداً، الدرك يأتون دائماً إلينا. ننام هنا فوق التراب، ونستخدم البلاستيك كغطاء لنا في أوقات الشتاء، كما أنّ الدرك الإسباني عقبة كبيرة في محاولة دخولنا إلى إسبانيا". وعن بقائه وعمله في المغرب، يجيب: "العمل في المغرب هو فقط من أجل دفع الإيجار الشهري في بيوت الغابة".
يستغلّ المهاجرون أوقاتهم في التجمع والضحك واللعب، ويسود مجتمع الغابة قوانين وضعوها بأنفسهم أن "لا عراكات ولا صدامات". يقول حميد: "نحن نعيش مجموعة واحدة. كلنّا سيّان. توجد شروط في الغابة بيننا فلا سرقة ولا اعتداء، كلّنا دم واحد، ونتفهم بعضنا بعضاً". لكنّه يشير إلى أنّ السكان المحليين يعاملونهم بشيء من العنصرية.
تجمع المهاجرين سمات مشتركة، فمعظمهم من الشبان (55 في المائة) بحسب دراسة ميدانية أجراها "مرصد الشمال لحقوق الإنسان". أما دوافع معظمهم للهجرة فهي اقتصادية، بينما يشدد ربعهم على أنّ دوافعه أمنية. أكثرهم سنغاليون يليهم الغينيون ثم الغامبيون والماليون والعاجيون. بعضهم أنهى دراسته الجامعية. ومعظمهم عازب.
يعيشون مجموعات في الغابة يسيّرها "الأخ الأكبر" أي ممثل كلّ مجموعة بحسب دولتها، حفاظاً على سلامة الجميع. يعيش هؤلاء على قوت يوميّ أو من دون قوت حتى. يجوعون يوماً أو أكثر أحياناً. يحصلون على الماء النقيّ من نبع داخل الغابة يستخدمونه في الشرب والطهي والاستحمام. لا نساء مهاجرات داخل الغابة. أما المرضى فيحاولون إسعافهم كما يقول حميد "بمساعدتهم في الوصول إلى المستشفى في طنجة أو الرباط".
لكلّ من سكان الغابة قصته ودافعه للهجرة. الغيني محمد يقول إنّه حاول الدخول إلى سبتة مرات عديدة، لكنّ هذه المحاولة هي الأصعب بسبب إقامته في الغابة. يبحث محمد عن بلد جيد للدراسة، حلمه لم ينتهِ عند حدود سبتة. يقول لـ"العربي الجديد": "أريد الهجرة لأنّ صعوبات بلادي كبيرة. لا أحد بإمكانه مساعدتك هناك. إذا كنت تريد الدراسة لا أحد يقدم لك أي مساعدة". يؤكد محمد أنّه يمضي نهاره كاملاً تحت المطر في انتظار الطعام من السيارات المارة.
إبراهيم (22 عاماً) وأحمد (16 عاماً) غينيان أيضاً. يجلسان تحت شجرة سرو تتسرب منها قطرات المطر، يحتميان تحتها من المطر ويريحان مظلتهما الصغيرة قليلاً. مرّت شهور عليهما في الغابة، يقول إبراهيم إنّهم لا يتلقون أيّ مساعدات من جمعيات المنطقة".
حقوق وانتقادات
جميع المهاجرين هناك ملابسهم رثّة، لا تقيهم البرد الآتي على الأبواب، والعواصف فوق مرتفعات شمال المغرب. أحذيتهم بلاستيكية مفتوحة، وأصابعهم زرقاء مرتعشة. حلمهم ليس إسبانيا "فلا مال فيها" بل ألمانيا وغيرها.
يقول بنعيسى إنّ "سياسة المغرب في الهجرة ذات بعد حقوقي وإنساني، لكن من جانب آخر تتماشى مع سياسة الاتحاد الأوروبي الحالية التي تسعى إلى جعل الدول المحيطة، ومنها دول شمال أفريقيا، تلعب دور الشرطي، حتى يتجنب الاتحاد الأوروبي الانتقادات الحقوقية. المغرب يلعب هذا الدور من خلال اعتقال المهاجرين وارتكاب تجاوزات في حقهم".
مع إقرار المغرب سياسة الهجرة عام 2013 بدأ التعامل الإنساني مع المهاجرين يتعزز نتيجة تأهيل أفراد "الدرك الملكي" للتعاطي مع المهاجرين. بالرغم من ذلك، ما زالت هناك تجاوزات. يقول بنعيسى: "الدولة المغربية مطالبة بإخضاع أفراد الدرك إلى تأهيل مناسب للتعامل مع المهاجرين حتى يتجنب المغرب الانتقادات المحلية والدولية".
أما في ما يتعلق بمعاملة السكان المحليين مع المهاجرين التي وصفها الأخيرون بـ"العنصرية"، يقول بنعيسى: "هي تجاوزات فردية غير ممنهجة وانفعالية كان آخرها احتكاك بينهم وبين المهاجرين خوفاً من فيروس إيبولا، إلّا أنّ الكثير من المغاربة يقدمون الأكل والملابس للمهاجرين". تجدر الإشارة إلى أنّ منطقة الشمال تفتقر إلى عمل المنظمات الدولية أو المحلية الرسمية في دعم المهاجرين وحقوقهم، ويقتصر الأمر على بعض المبادرات الفردية أو الأهلية غير الرسمية.